وما أشقى أهل الكفر والفسوق والعصيان لأن الكفر يلازمه القلق والحيرة والاضطراب، ولأن الفسق والمعصية يدمران الإنسان ماديا ومعنويا، فيصبح حائر النفس، ذليلا مهينا على الناس.
تكريم البشرية بالسجود لآدم وإغواء الشيطان وطرده من الجنة
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
الإعراب:
ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ما استفهامية مبتدأ، مَنَعَكَ جملة فعلية خبر المبتدأ، وأَلَّا تَسْجُدَ في موضع نصب بمنعك، وأَلَّا صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد، كما في آية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص ٣٨/ ٧٥] وتزاد كثيرا في كلام العرب. وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ منصوب بفعل لَأَقْعُدَنَّ على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأقعدن لهم على صراطك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه.
اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما: حال من الضمير المرفوع في اخْرُجْ.
البلاغة:
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على حذف مضاف، أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم. ما مَنَعَكَ السؤال مع علمه تعالى بما منعه من السجود للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم.
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ استعار الصراط لطريق الهداية الموصل إلى الجنة.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أوجدنا أباكم آدم بتقدير حكيم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي صورناه وأنتم ذرأت في ظهره اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية واحترام إِلَّا إِبْلِيسَ أبا الجن الذي كان بين الملائكة أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة لتأكيد السجود إِذْ أَمَرْتُكَ حين الأمر فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة، وقيل: من السموات، والهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها أَنْ تَتَكَبَّرَ أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين من الصغار: وهو الذل والهوان.
أَنْظِرْنِي أخرني وأمهلني مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخرين، وفي آية أخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي يوم النفخة الأولى فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإيقاع في الغواية: وهي ضد الرشاد، والباء للقسم، وجوابه: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لبني آدم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي على الطريق الموصل إليك.
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من كل جهة، فأمنعهم من سلوكه، قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى. مَذْؤُماً معيبا أو ممقوتا، من ذأم: عاب. مَدْحُوراً مبعدا مطرودا عن الرحمة لَمَنْ تَبِعَكَ من الناس، واللام: للابتداء أو موطئة للقسم وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي منك بذريتك ومن الناس، وفيه تغليب الحاضر على الغائب. وفي الجملة معنى جزاء لَمَنْ الشرطية أي من تبعك أعذبه.
المناسبة:
رغّب الله تعالى في الآيات السابقة بقبول دعوة الأنبياء عليهم السلام، بالتخويف أولا، ثم بالترغيب ثانيا بالتنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق،
ثم أتبعه ببيان أنه خلق أبانا آدم وكرّمه بأمر الملائكة بالسجود له، والإنعام على الأب إنعام على الابن، لكن قد يتعرض الناس لوسوسة الشيطان وإغوائه، ولا يليق بهم مع هذه النعم العظيمة التمرد والجحود.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في سبعة مواضع في القرآن: في البقرة، والأعراف (هذه السورة) والحجر، وبني إسرائيل (الإسراء) والكهف، وسورة طه، وسورة ص.
ومضمون القصة هنا: التنبيه على تكريم آدم، وبيان عداوة إبليس لذريته، وحسده لهم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، وليشكروا الله على نعمه العظيمة.
والمعنى: لقد خلقنا أيها الناس أباكم آدم من الماء والطين اللازب، ثم صورناه بشرا سويا، ونفخنا فيه من روحنا، ثم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية.
وظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلق ذريته وتصويرهم، وليس الأمر كذلك، لذا تأول المفسرون الآية تأويلات أربعة، اختار منها الرازي القول الأول وهو: خلقنا أباكم آدم وصورناه، وبعد خلقه وتصويره أمرنا الملائكة بالسجود له، ولم يتأخر هذا الأمر عن خلقنا وتصويرنا، وذلك لأن آدم أصل البشر، فالخطاب لنا من باب الكناية، مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة ٢/ ٩٣] أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام، وقال تعالى مخاطبا لليهود في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة ٢/ ٤٩] وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة ٢/ ٧٢]، والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم «١».
فالمراد بذلك كله آدم عليه السلام، وهو اختيار ابن جرير الطبري أيضا «١».
قال ابن كثير: وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر.
وروى الحاكم عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أنه قال: «خلقوا في أصلاب الرجال، وصوروا في أرحام النساء» وقال أي الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. فيكون معنى الآية: ولقد خلقناكم في ظهر آدم عليه السلام أمثال الذّر، ثم صورناكم أي في الأرحام.
قال القرطبي: الصحيح من الأقوال ما يعضده التنزيل، قال الله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٢] يعني آدم. وقال:
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء ٤/ ١] ثم قال: جَعَلْناهُ أي جعلنا نسله وذريته نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون ٢٣/ ١٣] فآدم خلق من طين ثم صوّر وأكرم بالسجود، وذريته صوّروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء «٢». وهذا موافق لرأي الرازي والطبري، ومبيّن تصوير بني آدم، وهو جمع حسن بين الخلقين.
وأما السجود لآدم فمتفق عليه لقوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ أي وبعد إتمام خلق آدم أمرنا الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم له ولذريته لا سجود عبادة إذ لا معبود إلا الله وحده، وذلك حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيشكروها، وليحذروا إبليس ووساوسه بعد ما فعله قديما.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس الذي كان من الجن لا من الملائكة أبى واستكبر، ولم يكن مع الساجدين.
فسأله الله: ما منعك ألا تسجد؟ أي ما منعك وحال بينك وبين السجود؟
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ١٦٩
ولا هنا زائدة للتأكيد بدليل اية أخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص ٣٨/ ٧٥].
فأجاب معتذرا متعللا: إني أنا خير منه، خلقتني من النار، وخلقته من الطين، والنار بما فيها من خاصية الارتفاع والعلو والنور أشرف من الطين الذي يتسم بالركود والخمود والذبول، والشريف لا يعظّم من دونه، وإن خالف أمر ربه. هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ لا يستدل على الخيرية بالطبيعة المادية، وإنما تكون الخيرية بالمعاني والخصائص المفيدة فائدة أكثر، وقد حبا الله آدم من العلوم والمعارف والتكريم ما لا يجهله إبليس نفسه.
وهذا كله مبني على أن الأمر بالسجود أمر تكليف، وأنه قد وقع حوار أو سؤال وجواب بين الله وإبليس، وما علينا إلا الإيمان بما دل عليه ظاهر الكتاب، وندع أمر الغيب والحقيقة لله عزّ وجلّ.
وكان جزاء المخالفة وعصيان الأمر الإلهي أنه تعالى أمر إبليس بالهبوط من الجنة التي خلقه الله فيها، وكانت على مرتفع من الأرض لأن الجنة مكان المخلصين المتواضعين، لا مكان المتمردين المتجبرين، لذا قال تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي فما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الجنة المعدة للكرامة والإسعاد، لا للتكبر والشقاء والعصيان.
فاخرج من هذا المكان، إنك من الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض مقصوده، ومكافأة لمراده بضده.
فاستدرك اللعين وسأل الإمهال إلى يوم الدين، قال: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته، فأكون معهم حال الحياة للأخذ بالثأر من طريق الإغواء، وأشهد انقراضهم وبعثهم.
فأجابه الله إلى مطلبه، فقال له: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق، وهي نفخة الفزع لقوله تعالى:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل ٢٧/ ٨٧] وتسمى أيضا نفخة الصعق لقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزّمر ٣٩/ ٦٨].
أي إن إبليس يموت عقب النفخة الأولى، كما قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً [الحاقة ٦٩/ ١٣- ١٤].
ولما أنظر إبليس إلى يوم البعث واستوثق بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: فَبِما أَغْوَيْتَنِي.. أي كما أغويتني أو أضللتني. لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية آدم على طريق الحق وسبيل النجاة والسعادة، ولأضلنهم عنها، لئلا يعبدوك ولا يوحدوك، بسبب إضلالك إياي، وذلك بأن أزيّن لهم طرقا أخرى كلها ضلال وانحراف.
ثم لا أدع جهة من الجهات الأربع (اليمين والشمال والأمام والخلف) إلا أتيتهم منها، مترصدا لهم كما يترصد قاطع الطريق للمارّة.
ولا تجد أكثرهم شاكرين لك نعمتك، ولا مطيعين أوامرك، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، وأصاب ما هو حاصل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ ٣٤/ ٢٠- ٢١].
ثم أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي اخرج من الجنة معيبا ممقوتا، مبعدا مطرودا من رحمة الله.
وأقسم الله على أن من تبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفسوق والمعصية، لأملأن جهنم منك ومن أتباعك أجمعين. وذلك كما في آية أخرى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص ٣٨/ ٨٥] وآية: قالَ: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء ١٧/ ٦٣- ٦٥].
واستثنى الله تعالى من إغوائه عباده المخلصين، فقال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر ١٥/ ٤٢] وقال أيضا: قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص ٣٨/ ٨٢- ٨٣].
والمراد من كل هذا بيان طبيعة البشر وطبيعة الشيطان، واختيارهما في أعمالهما.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تكريم النوع الإنساني بسجود الملائكة لأصل الإنسان وهو آدم أبو البشر.
٢- الخلق والتصوير لله وحده، ولا يستطيع أحد من البشر فعل شيء منهما.
والخلق لغة: التقدير، وتقدير الله: عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين. والتصوير: عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ.
٣- رفض إبليس أمر الله بالسجود لآدم، تكبرا منه واستعلاء لأنه رأى أن النار المخلوق منها أشرف من الطين الذي خلق منه آدم، لعلوها وصعودها
وخفتها، ولأنها جوهر مضيء. قال ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين:
أول من قاس إبليس، فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس. وقال ابن سيرين: وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس أي المقاييس الفاسدة التي منها تفضيل النار على الطين، وهو خطأ، لما يأتي:
أما جوهر الطين ففيه الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر، وهذا ما دعا آدم عليه السلام إلى التوبة والتواضع والتضرع.
والنار سبب للعذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سببا للعذاب. وذلك يدل على أن التراب أفضل من النار.
إن قياس إبليس هو القياس الفاسد المصادم للنص، أما القياس الصحيح الموافق للنص فيجب العمل به شرعا لانسجامه مع النصوص. قال الطبري:
الاجتهاد والاستنباط من كتاب الله، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وإجماع الأمة، هو الحق الواجب، والفرض اللازم لأهل العلم. وبذلك جاءت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن جماعة الصحابة والتابعين. وقال أبو تمام المالكي: أجمعت الأمة على القياس فمن ذلك أنهم أجمعوا على قياس الذهب والورق في الزكاة.
٤- إن جزاء الرفض لأمر الله من إبليس استوجب طرده من الجنة، ذليلا معيبا ممقوتا مطرودا مبعدا من رحمته،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم عن أبي هريرة: «من تواضع لله رفعه الله»
وقال أيضا فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من تكبر وضعه الله»
وقال بعضهم: لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار.
٥- سأل إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب، وطلب ألا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده، فأنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. لكن إنظار الله تعالى إبليس إلى يوم القيامة
لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق، سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك، فلم يكن ذلك الاعلام موجبا إغراءه بالقبيح.
٦- للشيطان دور في إغواء بعض الناس من طريق الوسوسة لهم، والإغواء: إيقاع الغي في القلب، والغي: هو الاعتقاد الباطل. ودل قوله تعالى: فَبِما أَغْوَيْتَنِي على أن الله تعالى أضلّ إبليس وخلق فيه الكفر، لذا نسب الإغواء إلى الله تعالى، وهو الحقيقة ومذهب أهل السنة، فلا شيء في الوجود إلا وهو مخلوق له، صادر عن إرادته تعالى.
٧- المراد من قوله تعالى: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ: أن الشيطان يواظب على الإفساد مواظبة لا يفتر عنها. وتدل هذه الآية على أن إبليس كان عالما بالدين الحق، والمنهج الصحيح لأن صراطك الله المستقيم هو دينه الحق.
٨- محاولات إغواء الشياطين لا تقتصر على وجه واحد، وإنما تأتي من كل أوجه الحياة، فينبغي الحذر من الشيطان، لذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها،
كما روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي»
أي من الخسف.
٩- دلت آية: اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ.. على أن التابع والمتبوع تملأ جهنم منهما، وهذا يشمل الكافر والفاسق، مما يدل قطعا على دخول الفاسق النار، والمذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه يدخل جهنم. وتدل الآية أيضا على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأنهم كلهم تابعون لإبليس.