آيات من القرآن الكريم

قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ

وجميع النعم، وهو المراد من قوله: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم.
ومن المعروف أن بني إسرائيل يجحدون نعم الإله عليهم، فالله أنعم عليهم بتفضيلهم على عالمي زمانهم، وهي نعمة عظيمة، فكيف يليق بهم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؟! وأنعم عليهم بالعزة بعد الذلة، وبالسلطان والحكم والخلافة في الأرض بعد العبودية والاستعمار والتبعة، وبالنجاة من ظلم فرعون الذي كان يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم أحياء. والخطاب وإن كان ليهود عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو تذكير لهم بإنجاء أسلافهم.
مناجاة موسى لربه أو مكالمة موسى ربه وطلبه رؤية الله وإنزال التوراة عليه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٥]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)

صفحة رقم 80

الإعراب:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي تمام ثلاثين ليلة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وهو في موضع المفعول الثاني لواعدنا. ولا يجوز أن يكون ثَلاثِينَ منصوبا على الظرف لأن الوعد لم يكن في الثلاثين.
وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً: حال، كأنه قال: فتم ميقات ربه معدودا أربعين ليلة، وليلة:
تمييز.
وهارُونَ مجرور على البدل من لِأَخِيهِ أو على عطف البيان.
جَعَلَهُ دَكًّا إما منصوب على المصدر من: دككت الأرض دكّا، إذا جعلتها مستوية.
وإما أن يكون منصوبا على المفعول، وفيه حذف مضاف لأن الفعل الذي قبله ليس من لفظه وهو «جعل» وتقديره: فجعله ذا دكّ، أي ذا استواء.
لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور قبله وهو مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
البلاغة:
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فيه التفات من الغيبة أي (سأريهم) إلى الخطاب، للمبالغة في الحض على انتهاج طريق الصالحين.
المفردات اللغوية:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً أي وعدناه بأن نكلمه عند انتهائها، وبعد أن يصومها، وهي ذو القعدة، فصامها، فلما تمت أنكر خلوف- رائحة- فمه، فاستاك، فأمره الله بعشرة أخرى، ليكلمه، بسبب إزالة خلوف فمه وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ وقت وعده بكلامه إياه، والميقات: ما قدر فيه عمل من الأعمال، كمواقيت الصلاة والصوم والحج. أما

صفحة رقم 81

الوقت: فهو وقت للشيء قدر فيه عمل أو لم يقدر. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ عند ذهابه للجبل للمناجاة اخْلُفْنِي كن خليفتي وَأَصْلِحْ أمرهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ بموافقتهم على المعاصي.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي للوقت الذي وعدناه للكلام فيه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة لَنْ تَرانِي لن تقدر على رؤيتي، والتعبير به دون (لن أرى) يفيد إمكان رؤيته تعالى.
فَإِنِ اسْتَقَرَّ ثبت فَسَوْفَ تَرانِي أي تثبت لرؤيتي، وإلا فلا طاقة لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ انكشف وظهر نوره، قدر نصف أنملة الخنصر، كما في حديث صححه الحاكم دَكًّا مدكوكا مستويا بالأرض صَعِقاً مصعوقا مغشيا عليه لهول ما رأى أَفاقَ عاد إليه رشده وعقله وفهمه سُبْحانَكَ تنزيها لك تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال ما لم أؤمر به أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ في زماني.
اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ أهل زمانك وَبِكَلامِي أي تكليمي إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ من الفضل وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لأنعمي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة، وكانت سبعة أو عشرة، وهي من سدر الجنة، أو زبرجد أو زمرّد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين وَتَفْصِيلًا تبيينا بِقُوَّةٍ أي يجد وعزيمة واجتهاد سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ فرعون وأتباعه، وهي مصر، لتعتبروا بها.
المناسبة:
بعد أن عدد الله تعالى طائفة من النعم على بني إسرائيل، كإنجائهم من عبودية فرعون، وجعلهم أمة مستقلة، ذكر هنا كيفية نزول التوراة على موسى، التي هي دستور حياتهم، وتبيان شريعتهم والأحكام التي أمر ربهم بها.
وسبب الآيات: هو ما روي أن موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر: إن أهلك الله عدوهم، أتاهم بكتاب من عند الله، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فهذه الآيات في بيان كيفية نزول التوراة «١».

(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٦.

صفحة رقم 82

وموضوع الآيات: تحديد موعد لموسى لمكالمة ربه، واستخلاف هارون على بني إسرائيل في غياب موسى، وطلب موسى رؤية الله عز وجل، وإنزال التوراة المتضمنة أصول الشريعة.
التفسير والبيان:
امتن الله على بني إسرائيل بما ظفروا به من الهداية، بتكليمه موسى عليه السلام، وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم.
والمعنى: وعد الله تعالى موسى مكالمته، في تمام ثلاثين ليلة، وأمره بصومها، فصامها، وهي شهر ذي القعدة، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه، فاستاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل صيام عشرة أيام أخرى من ذي الحجة، وأن يلقى الله صائما، فأصبح موعد اللقاء في تمام أربعين ليلة، ذكرت في سورة البقرة مجملة، وفصلت هنا.
وإنما قال: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إزالة لتوهم أن ذلك العشر من الثلاثين: لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين، كأنه كان عشرين، ثم أتمه بعشر، فصار ثلاثين، فأزال هذا الإيهام «١».
روي عن أبي العالية أنه قال في بيان زمان الموعد: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة، فمكث على الطور ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح، فقرّبه الرب نجيا، وكلمه وسمع صريف القلم.
قال ابن كثير: فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى:

(١) تفسير الرازي: ١٤/ ٢٢٦، أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٤.

صفحة رقم 83

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة ٥/ ٣] «١».
وقال موسى حين أراد الذهاب إلى الطور لميقات ربه لأخيه هارون الأكبر منه سنا: كن خليفتي في القوم مدة غيابي، وأصلح أمر دينهم، ولا تتبع سبيل أهل الفساد والضلال، وهو يشمل مشاركتهم في أعمالهم الفاسدة. وهذا تنبيه وتذكير وتأكيد، وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله.
وكان هارون وزيرا لموسى بسؤاله ربه: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه ٢٠/ ٢٩- ٣٢]. وكانت الرياسة في بني إسرائيل لموسى عليه السلام.
ولما جاء موسى لميقات الله تعالى المحدد له للكلام مع ربه وإعطائه الشريعة، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة وسمعه السبعون المختارون للميقات، رغب في الجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية، فقال: أرني ذاتك المقدسة، وقوّني على النظر إليك، فقال الله له: لن تراني الآن ولا في المستقبل في الدنيا إذ ليس لبشر القدرة على النظر إلى في الدنيا،
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه- أنواره- ما انتهى إليه بصره من خلقه».
ثم أبان له أنه لا يطيق الرؤية فقال مستدركا: ولكن انظر إلى الجبل، فإن ثبت مكانه عند التجلي الأعظم عليه، فسوف تراني. وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يستطع أن يثبت، فكيف أنت يا موسى؟
فلما تجلى ربه للجبل، وما تجلى منه إلا قدر الخنصر، جعله ترابا مدكوكا، وخرّ- سقط- موسى مغشيا عليه.

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٢٤٣.

صفحة رقم 84

فلما أفاق من إغماءته وغشيانه أو صعقته، قال: سبحانك، أي تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراك أحد في الدنيا إلا مات.
إني تبت إليك من طلب الرؤية أي أن أسألك الرؤية، وأنا أول المؤمنين في زماني من بني إسرائيل بعظمتك وجلالك، وفي رواية عن ابن عباس: وأنا أول المؤمنين أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
ثم طيب الله خاطره وأبان له مكانته، فقال له: يا موسى إني اخترتك على ناس زمانك وآثرتك عليهم بتكليمي إياك وبإعطائك رسالاتي المتنوعة، فخذ ما أعطيتك من الشريعة وهي التوراة، وكن من جماعة الشاكرين نعمي، المظهرين لإحساني إليك وفضلي عليك.
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الموعظة: تشمل كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة من المعصية، والتفصيل: بيان أقسام الأحكام، أي وأعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية والمواعظ المؤثرة، والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام وأصول العقيدة والآداب، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة، وهي أول ما أوتيه من التشريع.
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي فقلنا له: خذها عطفا على كَتَبْنا أي فخذها بقوة وجد وعزيمة، أي وعزم على الطاعة ونية صادقة، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها، أي يعملوا بالأوامر ويتركوا النواهي، ويتدبروا الأمثال والمواعظ.
ومعنى بِأَحْسَنِها أي بحسنها وكلها حسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فليأخذوا بما فيه الحسن والصواب، كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر ٣٩/ ٥٥].
سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، وكيف يصير إلى الهلاك والدمار.

صفحة رقم 85

قيل: أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية منهم.
وقال قتادة: سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها يعني الشام وأهل الشام، أي منازل عاد وثمود والشعوب التي أهلكها الله بسبب الفسق، وتمرون عليها في أسفاركم. قال ابن كثير: وهذا هو الأولى لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه.
وإذا كان المراد مصر فإن الله تعالى لما أغرق فرعون، أوحى إلى البحر أن اقذف بأجسادهم إلى الساحل، ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل، فأراهم هلاك الفاسقين. وهذا رأي أكثر المفسرين.
قال ابن جرير الطبري: وإنما قال: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره. أي أن في آية سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ وجهين: إما التهديد الوعيد على مخالفة أمر الله تعالى، وإما الاعتبار بمن أهلكهم الله، وهم إما فرعون وجنوده، وإما منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تعظيما لشأن الميقات أو الموعد بتكليم الله أمر الله موسى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى، ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي في رأي، أو أنه أزال خلوف فمه بنهاية صوم الثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة في رأي الكثيرين، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة. فهذا هو فائدة تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة.

صفحة رقم 86

٢- إنه تعالى كلّم موسى عليه السلام، وكلام الله تعالى في قول أكثر أهل السنة والجماعة صفة أزلية قديمة، مغايرة للحروف والأصوات، فليس كلام الله حرفا ولا صوتا، وقد سمع موسى عليه السلام تلك الصفة الحقيقية الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت، وإلا كان كلامه محدثا.
٣- قد سمع السبعون المختارون للميقات أيضا كلام الله تعالى لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك، وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام، ثم إن حادثة التكليم معجزة لموسى، فلا بد من اطلاع غيره عليها.
٤- أنزل الله تعالى على موسى في هذه المكالمة الألواح وفيها التوراة المشتملة على أصول العقيدة والأخلاق والآداب والشريعة والأحكام المفصلة المبينة للحلال والحرام، عن مقاتل: كتب في الألواح: «إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين، فإن من حلف باسمي كاذبا، فلا أزكيه، ولا تقتلوا، ولا تزنوا، ولا تعقّوا الوالدين».
٥- يجب تلقي الشريعة بحزم وجد وعزم على الطاعة وتنفيذ ما ورد فيها من الصلاح والإصلاح ومنع الفساد والإفساد، وتكوين الأمة تكوينا جديدا.
والأخذ بأحسن ما في التوراة وكل ما فيها حسن وهو الأخذ بالفرائض والنوافل، دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب «١».
٦- اعتز شعب إسرائيل حين أقام شريعته، فلما غلب عليه الغرور، وظن أنه شعب الله المختار، وظلم وفسق، سلط الله عليه البابليين، فأزالوا ملكه، ثم تاب فعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد، فسلط عليه النصارى، فهزموه وشتتوه.

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٥. [.....]

صفحة رقم 87

وكذلك المسلمون لما عصوا كتاب ربهم وأهملوه، سلط الله عليهم الأعداء من كل جانب، فأفسدوا أفكارهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وأوقعوا الشقاق والنزاع بينهم.
والخلاصة: أن الأمة تكون عزيزة الجانب مرهوبة ما دامت متمسكة بدينها، فإذا أهملته انهارت وضاعت ولا يغترن أحد بدول أوربا وأمريكا وروسيا واليهود، فإن ذلك لأجل محدود، ولحكمة يعلمها الله تعالى.
٧- الآراء في رؤية الله عز وجل: استدل المعتزلة بهذه الآية: لَنْ تَرانِي وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام ٦/ ١٠٣] على نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، وما كان طلب موسى عليه السلام الرؤية إلا تبكيت السفهاء الذين طلبوا الرؤية، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله بامتناع ذلك.
وأثبت أهل السنة إمكان رؤية الله في الآخرة، بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣] وبالأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها:
ما أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته... »
ومنها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
وهي المعبر عنها بقولهم: إنها رؤية بلا كيف.
أما الآية هنا: لَنْ تَرانِي فتدل على أنه تعالى جائز الرؤية لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى ولأنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز وهو استقرار الجبل، وما علق على جائز الوجود فهو جائز ولأن موسى عليه

صفحة رقم 88
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية