
جحود بني إسرائيل نعم الله عليهم
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
الإعراب:
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما: اسم موصول بمعنى الذي، ولَهُمْ: صلته، والعائد الضمير في لَهُمْ. وآلِهَةٌ: مرفوع إما على أنه بدل من الضمير المرفوع في لَهُمْ، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: هي الهة، وإما على أنه مرفوع ب لَهُمْ على تقدير: كما استقر لهم آلهة. ما كانُوا يَعْمَلُونَ: كانُوا: صلة زائدة.
أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً تقديره: أبغي لكم إلها غير الله، وغَيْرَ اللَّهِ: منصوب على الحال: لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصب على الحال.
البلاغة:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أتى بالمضارع بدل الماضي إشعارا بأن ذلك منهم بمثابة الطبع الملازم لهم، لا يتخلون عنه ولو في المستقبل.
المفردات اللغوية:
وَجاوَزْنا عبرنا، يقال: جاز الشيء وجاوره وتجاوزه: انتقل عنه فَأَتَوْا فمروا.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ يقيمون على عبادتها. والأصنام: جمع صنم، وهو ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن مثالا لشيء حقيقي أو خيالي، بقصد تعظيمه تعظيم العبادة، وهو شرك. أما

التمثال: فلا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، فإن عبد فهو صنم. وقد يتخذ التمثال للزينة كالمتخذ على جدران الأبنية أو في مداخل الجسور، وقد يكون التمثال لتذكر سيرة بعض القادة بقصد التعظيم غير الديني، كتماثيل بعض الزعماء والعلماء في الساحات العامة.
اجْعَلْ لَنا إِلهاً صنما نعبده. إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه.
مُتَبَّرٌ هالك، والتتبير: الإهلاك والتدمير. وَباطِلٌ زائل لا بقاء له. أَبْغِيكُمْ إِلهاً مثل أبتغيكم: أي أطلب لكم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، أتبع ذلك بالنعمة العظمى: وهي أن الله جاوز بهم البحر مع السلامة. وهذا تكملة الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون.
ثم ارتدوا وجهلوا وطلبوا من موسى عبادة الأصنام. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما رآه من يهود المدينة، فقد فعلوا ما هو أعظم مع نبيهم موسى عليه السلام. وفي بيان ذلك تذكير للمؤمنين أن يشكروا نعمة الله، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
أنقذ الله بني إسرائيل من كيد فرعون وملئه، فعبروا البحر آمنين بالسير في أرضه دون سفن، بعد أن أوحى الله لنبيه موسى بضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ثم أغرق الله فرعون وقومه حينما لحقوا بهم، وفي وسط البحر أطبق عليهم الماء، كما وصف تعالى هذا الحادث العجيب بقوله: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٦٣- ٦٧].

وبعد أن جاوز بنو إسرائيل البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، وشاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخصهم بالنجاة والسلامة، كانوا في غاية الجهالة والضلالة وجحود النعمة، إذ طلبوا من موسى اتخاذ إله من الأصنام، تأثرا بما رأوه من بعض العرب أو من غيرهم يعبدون الأصنام ويعظمونها ويلازمونها ويقبلون عليها، وتشبها بالمصريين الذين كانوا يعبدون التماثيل. وكأنهم لم يدركوا معنى التوحيد الذي دعاهم إليه موسى عليه السّلام.
أما القوم الذين رأوهم فهم من الكنعانيين (وهم الذين أمر موسى عليه السّلام بقتالهم) وقيل: كانوا من لخم. قال الطبري: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعدئذ.
فقالوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، أي اجعل لنا صنما نعكف عليه ونلازمه، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها، والمراد أنهم طلبوا منه أن يعين لهم أصناما. وهذا يدل على تأثرهم بالبيئة المصرية وحنينهم لها، وعلى نزعتهم المادية بتجسيد الإله في صورة معدن أو حجر.
فأجابهم موسى تعجبا من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع، فإنهم جهلوا مقام التوحيد، وما يجب من إفراد الله بالعبادة بلا واسطة من إنسان أو مادة، جهلوا عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل.
واتخاذ الواسطة إلى الله بهذه الأصنام كفر فقد أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم،

ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام «١».
وهذه طريقة السذّج والجهلة، وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك،
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط «٢»، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها، فقال: الله أكبر، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، إنكم تركبون سنن من قبلكم».
وتتمة ردّ موسى: إن هؤلاء يعني عبدة تلك التماثيل مدمّر مكسّر ما هم فيه، وزائل ما كانوا يعملون من عبادتها فيما سلف، فكل ما عملوه مضمحل الأثر، لا ينتفعون به، بل يعاقبون عليه، وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
وفي عبارة القرآن: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وهذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض.
ثم قال لهم موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أطلب لكم معبودا؟ وهو الذي فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، أي عالمي زمانهم بالتوحيد وهداية الدين وتجديد ملة إبراهيم عليه السلام.
ثمّ ذكّرهم موسى عليه السّلام نعم الله العظمى عليهم، من إنقاذهم من أسر
(٢) كان للكفار سدرة أي شجرة السدر، يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها:
ذات أنواط.

فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزّة والسيادة وخلافة الملك والسلطان، والاشتفاء أو الانتقام من عدوهم والنظر إليه وقت هلاكه وغرقه ودماره، بعد أن كان يسومكم سوء العذاب، بتقتيل أبنائكم، وترك نسائكم أحياء، وتسخيركم للخدمة. وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء عظيم، أي أن النعمة أو المحنة اختبار مهم جدا، فأنتم أجدر الناس بعبادة ربكم الذي منحكم نعمة الحياة والإنقاذ والعزة، وأولى من غيركم بشكر تلك النعم الجليلة، وهل هناك عجب أشد من هذا العجب أن تطلبوا جعل آلهة مزيفة عاجزة خسيسة ضعيفة واسطة بينكم وبين الله الذي فضلكم عليها وعلى من يعبدونها.
والمراد بقوله: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ أي اذكروا ذلك الوقت، والقصد ذكر ما حصل فيه، حتى يشكروا الله عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: وَجاوَزْنا على جهالة بني إسرائيل بحقيقة التوحيد الذي جاء موسى عليه السّلام من أجل إرشادهم إليه، فقد طلبوا منه أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا تماما مشابه لفعل عبدة الأوثان حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم، وكانوا نزولا بالرّقة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر ولهذا أخرج لهم السامري عجلا.
ونظيره قول جهال الأعراب في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمى «ذات أنواط» «١» يعظمونها في كل سنة يوما: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام- كما

تقدم-: «الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً، كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لتركبنّ سنن من قبلكم حذو القذّة «١» بالقذّة، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه»
وكان هذا في مخرجه إلى حنين.
وإن طلب إله آخر هو في غاية الجهل لأن المعبود المستحق للعبادة والتعظيم هو القادر على خلق الأجساد والحياة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى، فلا تليق العبادة إلا به.
ودلت آية: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ على أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وأن عهد الوثنية من الأرض سينتهي، لمناقضته العقل والفطرة.
وقد ندد موسى عليه السّلام بطلب بني إسرائيل من نواح أربع:
أولها- أنه حكم عليهم بالجهل، فقال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
وثانيها- أنه قال: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك.
وثالثها- أنه قال: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعا في الدنيا والدين.
ورابعها- التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة