
أَنِّي أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي. قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ إِنَّمَا يَعْظُمُ مَوْقِعُهُ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالتَّعْظِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا وَعَدَهُمْ بِالْأَجْرِ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَهُوَ حُصُولُ الْقُرْبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا ذَلِيلًا مَهِينًا عَاجِزًا وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ فِي دَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السَّحَرَةَ مَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِلَّا لَمَا احْتَاجُوا إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَالْمَالِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَلِمَ لَمْ يَقْلِبُوا التُّرَابَ ذَهَبًا وَلِمَ لَمْ يَنْقُلُوا مُلْكَ فِرْعَوْنَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَلِمَ لَمْ يَجْعَلُوا أَنْفُسَهُمْ مُلُوكَ الْعَالَمِ وَرُؤَسَاءَ الدُّنْيَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْبِيهُ الْإِنْسَانِ لِهَذِهِ الدَّقَائِقِ وَأَنْ لَا يَغْتَرَّ بِكَلِمَاتِ أَهْلِ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَكَاذِيبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٥ الى ١١٩]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
[في قوله تعالى قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: فِي بَابِ «أَمَّا وَإِمَّا» إِذَا كُنْتَ آمِرًا أَوْ نَاهِيًا أَوْ مُخْبِرًا فَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَإِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا أَوْ شَاكًّا أَوْ مُخَيِّرًا فَهِيَ مَكْسُورَةٌ تَقُولُ فِي الْمَفْتُوحَةِ أَمَّا اللَّهُ فَاعْبُدُوهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلَا تَشْرَبُوهَا وَأَمَّا زَيْدٌ فَقَدْ خَرَجَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَتَقُولُ: إِذَا كُنْتَ مُشْتَرِطًا إِمَّا تُعْطِيَنَّ زَيْدًا فَإِنَّهُ يَشْكُرُكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ [الْأَنْفَالِ: ٥٧] وَتَقُولُ فِي الشَّكِّ لَا أَدْرِي مَنْ قَامَ إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو وَتَقُولُ فِي التَّخْيِيرِ لِي بِالْكُوفَةِ دَارٌ فَإِمَّا أَنْ أَسْكُنَهَا وَإِمَّا أَنْ أَبِيعَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِمَّا إِذَا أَتَتْ لِلشَّكِّ وَبَيْنَ أَوْ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَنَيْتَ كَلَامَكَ عَلَى الْيَقِينِ ثم أدرك الشَّكُّ فَقُلْتَ أَوْ عَمْرٌو فَصَارَ الشَّكُّ فِيهِمَا جَمِيعًا فَأَوَّلُ الِاسْمَيْنِ فِي «أَوْ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْرِضُ الشَّكُّ فَتَسْتَدْرِكُ بِالِاسْمِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: قَامَ أَخُوكَ وَتَسْكُتُ ثُمَّ تَشُكُّ فَتَقُولُ: أَوْ أَبُوكَ وَإِذَا ذَكَرْتَ إِمَّا فَإِنَّمَا تَبْنِي كَلَامَكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى الشَّكِّ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ ضَرَبْتَ إِمَّا عَبْدَ اللَّهِ وَتَسْكُتُ وَأَمَّا دُخُولُ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَسُقُوطُهَا مِنْ قَوْلِهِ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٠٦] فَقَالَ الْفَرَّاءُ:
أَدْخَلَ (أَنْ) فِي إِمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ أَمْرٍ بِالِاخْتِيَارِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اخْتَرْ ذَا أَوْ ذَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا اخْتَرْ أَنْ تُلْقِيَ أَوْ نُلْقِيَ وَقَوْلُهُ: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بِالتَّخْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ لا يصلح هاهنا فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ «أَنْ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ يُرِيدُ عَصَاهُ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أَيْ مَا مَعَنَا مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَمَفْعُولُ الْإِلْقَاءِ مَحْذُوفٌ وَفِي الْآيَةِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْقَوْمَ رَاعَوْا حُسْنَ الْأَدَبِ حَيْثُ قَدَّمُوا مُوسَى

عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ وَقَالَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ إِنَّهُمْ لَمَّا رَاعَوْا هَذَا الْأَدَبَ لَا جَرَمَ رَزَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِيمَانَ بِبَرَكَةِ رِعَايَةِ هَذَا الْأَدَبِ ثُمَّ ذَكَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْإِلْقَاءِ مِنْ جَانِبِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا الضَّمِيرَ الْمُتَّصِلَ وَأَكَّدُوهُ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ وَجَعَلُوا الْخَبَرَ مَعْرِفَةً لَا نَكِرَةً وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَاعَوُا الْأَدَبَ أَوَّلًا وَأَظْهَرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِالْإِلْقَاءِ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ وَفِيهِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ إِلْقَاءَهُمْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ مُعَارَضَةٌ لِلْمُعْجِزَةِ بِالسِّحْرِ وَذَلِكَ كُفْرٌ وَالْأَمْرُ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ أَلْقُوا؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمُوا فِي فِعْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا أَمْرَ هُنَاكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ مِنَّا لِغَيْرِهِ اسْقِنِي الْمَاءَ مِنَ الْجَرَّةِ فَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَرْطِ حُصُولِ الْمَاءِ فِي الْجَرَّةِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءً فَلَا امر البتة كذلك هاهنا. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ/ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ فِي التَّقْدِيمِ ازْدِرَاءً لِشَأْنِهِمْ وَقِلَّةَ مُبَالَاةٍ بِهِمْ وَثِقَةً بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ التَّأْيِيدِ وَالْقُوَّةِ وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ لَا يَغْلِبُهَا سِحْرٌ أَبَدًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُرِيدُ إِبْطَالَ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ السِّحْرِ وَإِبْطَالُهُ مَا كَانَ يُمْكِنُ إِلَّا بِإِقْدَامِهِمْ عَلَى إِظْهَارِهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ السِّحْرِ لِيُمْكِنَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إِبْطَالِهِ وَمِثَالُهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ شُبْهَةِ مُلْحِدٍ لِيُجِيبَ عَنْهَا وَيَكْشِفَ عَنْ ضَعْفِهَا وَسُقُوطِهَا يَقُولُ لَهُ هَاتِ وَقُلْ وَاذْكُرْهَا وَبَالِغْ فِي تَقْرِيرِهَا وَمُرَادُهُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَجَابَ عَنْهَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ ضَعْفُهَا وَسُقُوطُهَا فَكَذَا هاهنا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاحْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السِّحْرَ مَحْضُ التَّمْوِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ السِّحْرُ حَقًّا لَكَانُوا قَدْ سَحَرُوا قُلُوبَهُمْ لَا أَعْيُنَهُمْ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ تَخَيَّلُوا أَحْوَالًا عَجِيبَةً مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَى وَفْقِ مَا تَخَيَّلُوهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: بَلِ الْمُرَادُ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أَيْ قَلَبُوهَا عَنْ صِحَّةِ إِدْرَاكِهَا بِسَبَبِ تِلْكَ التَّمْوِيهَاتِ وَقِيلَ إِنَّهُمْ أَتَوْا بِالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَلَطَّخُوا تِلْكَ الْحِبَالَ بالزئبق وجعلوا الزئيق فِي دَوَاخِلِ تِلْكَ الْعِصِيِّ فَلَمَّا أَثَّرَ تَسْخِينُ الشَّمْسِ فِيهَا تَحَرَّكَتْ وَالْتَوَى بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا فَالنَّاسُ تَخَيَّلُوا أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ وَتَلْتَوِي بِاخْتِيَارِهَا وَقُدْرَتِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَوَامَّ خَافُوا مِنْ حَرَكَاتِ تِلْكَ الْحِبَالِ والعصي قال المبرد:
اسْتَرْهَبُوهُمْ أَرْهَبُوهُمْ وَالسِّينُ زَائِدَةٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَدْعُوا رَهْبَةَ النَّاسِ حَتَّى رَهِبَهُمُ النَّاسُ وَذَلِكَ بِأَنْ بَعَثُوا جَمَاعَةً يُنَادُونَ عِنْدَ إِلْقَاءِ ذَلِكَ: أَيُّهَا النَّاسُ احْذَرُوا فَهَذَا هُوَ الِاسْتِرْهَابُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ خُيِّلَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ حَيَّاتٌ مِثْلُ عَصَا مُوسَى فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُغَالِبُوهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ وَالْبَاطِلِ وَمَعَ هَذَا الْجَزْمِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْخَوْفِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: ٦٧] قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْخِيفَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَجْلِ هَذَا السَّبَبِ بَلْ لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ مِنْ وُقُوعِ

التَّأْخِيرِ فِي ظُهُورِ حُجَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سِحْرِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صفة سحرهم: وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ رُوِيَ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا قَدْ عَلِمْنَا/ سِحْرًا لَا يُطِيقُهُ سَحَرَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ:
سَبْعِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فَمِنْ مُقِلٍّ وَمِنْ مُكْثِرٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِقْدَارِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْعَدَدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْوَحْيِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: يُرِيدُ وَأَلْهَمْنَا مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ وَالتَّقْدِيرُ (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حفص عن عاصم تَلْقَفُ ساكنة اللام خفيف الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ مَفْتُوحَةَ اللَّامِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. تَلَقَّفُ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي طه وَالشُّعَرَاءِ. أَمَّا مَنْ خَفَّفَ فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: اللَّقْفُ مَصْدَرُ لَقَفْتُ الشَّيْءَ أَلْقَفُهُ لَقْفًا إِذَا أَخَذْتَهُ فَأَكَلْتَهُ أَوِ ابْتَلَعْتَهُ وَرَجُلٌ لَقِفٌ سَرِيعُ الْأَخْذِ وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَمِثْلُهُ ثَقُفَ يَثْقِفُ ثَقْفًا وَثَقِيفٌ كَلَقِيفٍ بَيْنَ الثقافة والقافة وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مِنْ تَلَقَّفَ يَتَلَقَّفُ وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ فَأَصْلُهَا تَتَلَقَّفُ أَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا أَلْقَى مُوسَى الْعَصَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً حَتَّى سَدَّتِ الْأُفُقَ ثُمَّ فَتَحَتْ فَكَّهَا فَكَانَ مَا بَيْنَ فَكَّيْهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَابْتَلَعَتْ مَا أَلْقَوْا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ فَلَمَّا أَخَذَهَا مُوسَى صَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ أَصْلًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هذا مما يدل على وجود الا له الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ وَعَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الثُّعْبَانَ الْعَظِيمَ لَمَّا ابْتَلَعَتْ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ مَعَ كَثْرَتِهَا ثُمَّ صَارَتْ عَصًا كَمَا كَانَتْ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ أَجْسَامَ تِلْكَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ أَوْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَجَعَلَهَا ذَرَّاتٍ غَيْرَ مَحْسُوسَةٍ وَأَذْهَبَهَا فِي الْهَوَاءِ بِحَيْثُ لَا يُحَسُّ بِذَهَابِهَا وَتَفَرُّقِهَا وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَا يَأْفِكُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْإِفْكِ فِي اللُّغَةِ قَلْبُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَذِبِ إِفْكٌ لِأَنَّهُ مَقْلُوبٌ عَنْ وَجْهِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا يَأْفِكُونَ يُرِيدُ يَكْذِبُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعَصَا تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَهُ أَيْ يَقْلِبُونَهُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَيُزَوِّرُونَهُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَفْظَةُ (مَا) مَوْصُولَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ إِفْكَهُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَأْفُوكِ بالإفك.
ثم قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ [إلى آخر الآية] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: ظَهَرَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: فَتَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنَ السِّحْرِ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْوُقُوعُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِوُجُودِهِ نَازِلًا إِلَى مُسْتَقَرِّهِ وَسَبَبُ هَذَا الظُّهُورِ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا لَوْ كَانَ مَا صَنَعَ مُوسَى سِحْرًا لَبَقِيَتْ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا وَلَمْ تُفْقَدْ فَلَمَّا فُقِدَتْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ لَا لِأَجْلِ السِّحْرِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَمَيَّزَ الْمُعْجِزُ عَنِ السِّحْرِ. قَالَ الْقَاضِي قَوْلُهُ: فَوَقَعَ الْحَقُّ يُفِيدُ قُوَّةَ الثُّبُوتِ وَالظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ فِيهِ الْبُطْلَانُ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْوَاقِعِ أَنْ يَصِيرَ لَا وَاقِعًا.