آيات من القرآن الكريم

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ

وَوُصِفَ السِّحْرُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَفْعَلُهُ السَّحَرَةُ إِذْ كَانَ مَجْمُوعًا مِمَّا تَفَرَّقَ بَيْنَ سَحَرَةِ الْمَمْلَكَةِ مِنَ الْخَصَائِصِ الْمَسْتُورَةِ بِالتَّوْهِيمِ الْخَفِيَّةِ أَسْبَابُهَا عَن الْعَامَّة.
[١١٧- ١١٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١١٧ إِلَى ١١٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
جُمْلَةُ: وَأَوْحَيْنا معطوفة على جمل سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الْأَعْرَاف: ١١٦]، فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ لَمَّا، أَيْ: لَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ لَهُمْ عَصَاكَ.
وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ الدَّالِّ عَلَى سُرْعَةِ مُفَاجَأَةِ شُرُوعِهَا فِي التَّلَقُّفِ بِمُجَرَّدِ إِلْقَائِهَا، وَقَدْ دَلَّ السِّيَاقُ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفَتَيْنِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَأَلْقَاهَا فَدَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ وَانْقَلَبَتْ ثُعْبَانًا فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ، دَلَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى الْأَمْرُ بِالْإِلْقَاءِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ التَّلَقُّفُ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْحَيَوَانِ، وَالْعَصَا إِذَا دَبَّتْ فِيهَا الْحَيَاةُ صَارَتْ ثُعْبَانًا بِدُونِ تَبْدِيلِ شَكْلٍ.
وَالتَّلَقُّفُ: مُبَالَغَةٌ فِي اللَّقْفِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَالِازْدِرَادُ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: مَا يَأْفِكُونَهُ. وَالْإِفْكُ: الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ وَيُسَمَّى الزُّورُ إِفْكًا، وَالْكَذِبُ الْمَصْنُوعَ إِفْكًا، لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا عَنِ الْحَقِّ وَإِخْفَاءً لِلْوَاقِعِ، فَلَا يُسَمَّى إِفْكًا إِلَّا الْكَذِبُ الْمُصْطَنَعُ الْمُمَوَّهُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السِّحْرُ إِفْكًا لِأَنَّ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ فَشُبِّهَ بِالْخَبَرِ الْكَاذِبِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَلْقَفُ- بِقَافٍ مُشَدَّدَةٍ-، وَأَصْلُهُ تَتَلَقَّفُ، أَيْ تُبَالِغُ وَتَتَكَلَّفُ اللَّقْفَ
مَا اسْتَطَاعَتْ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ عَلَى صِيغَةِ الْمُجَرَّدِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَلْقَفُ ويَأْفِكُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْدِيدِ وَالتَّكْرِيرِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الْعَجِيبَةِ، أَيْ: فَإِذَا هِيَ يَتَجَدَّدُ تَلَقُّفُهَا لِمَا يَتَجَدَّدُ وَيَتَكَرَّرُ مِنْ إِفْكِهِمْ. وَتَسْمِيَةُ سِحْرِهِمْ إِفْكًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا مَعْمُولَ لَهُ وَأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْيِيلَاتٍ وَتَمْوِيهَاتٍ.

صفحة رقم 49

وَقَوْلُهُ فَوَقَعَ الْحَقُّ تَفْرِيعٌ عَلَى تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. وَالْوُقُوعُ حَقِيقَتُهُ سُقُوطُ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ: وَقَعَ الطَّائِرُ، إِذَا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاسْتُعِيرَ الْوُقُوعُ لِظُهُورِ أَمْرٍ رَفِيعِ الْقَدْرِ، لِأَنَّ ظُهُورَهُ كَانَ بِتَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ فَشُبِّهَ بِشَيْءٍ نَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْوُقُوعُ عَلَى الْحُصُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْحَاصِلَ يُشْبِهُ النَّازِلَ عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: ٦] أَيْ: حَاصِلٌ وَكَائِنٌ، وَالْمَعْنَى فَظَهَرَ الْحَقُّ وَحَصَلَ.
وَلَعَلَّ فِي اخْتِيَارِ لَفْظِ (وَقَعَ)، هُنَا دُونَ (نَزَلَ) مُرَاعَاةً لِفِعْلِ الْإِلْقَاءِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُلْقَى يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَانَ وُقُوعُ الْعَصَا عَلَى الْأَرْضِ وَظُهُورُ الْحَقِّ مُقْتَرِنَيْنِ.
والْحَقُّ: هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُوَافِقُ لِلْبُرْهَانِ، وَضِدُّهُ الْبَاطِلُ، وَالْحَقُّ هُنَا أُرِيدَ بِهِ صِدْقُ مُوسَى وَصِحَّةُ مُعْجِزَتِهِ وَكَوْنُ مَا فَعَلَتْهُ الْعَصَا هُوَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَثَرِ قُدْرَتِهِ.
وبَطَلَ: حَقِيقَتُهُ اضْمَحَلَّ. وَالْمُرَادُ: اضْمِحْلَالُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَانْتِفَاءُ أَثَرٍ مَزْعُومٍ لِشَيْءٍ يُقَالُ: بَطَلَ سَعْيُهُ، أَيْ: لَمْ يَأْتِ بِفَائِدَةٍ، وَيُقَالُ: بَطَلَ عَمَلُهُ، أَيْ: ذَهَبَ ضَيَاعًا وَخَسِرَ بِلَا أَجْرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الْأَنْفَال: ٨] أَيْ: يُزِيلُ مَفْعُولَهُ وَمَا قَصَدُوهُ مِنْهُ، فَالْبَاطِلُ هُوَ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، أَوْ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ ضِدُّ الْحَقِّ بَاطِلًا لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَرْجُوُّ، وَهُوَ الْقَبُولُ لَدَى الْعُقُولِ الْمُسْتَقِيمَةِ. وَشَاعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ حَتَّى صَارَ الْبَاطِلُ كَالِاسْمِ الْجَامِدِ، مَدْلُولُهُ هُوَ ضِدُّ الْحَقِّ، وَيُطْلَقُ الْبَاطِلُ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ بَطَلَ، فَيُسَاوِي الْمَصْدَرَ فِي اللَّفْظِ، وَيَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، فَصَوْغُ فِعْلِ بَطَلَ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنَ الِاسْمِ وَهُوَ الْبَاطِلُ. فَمَعْنَى بَطَلَ حِينَئِذٍ وُصِفَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ مِثْلُ فَهِدٍ وَأَسَدٍ، وَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: وَانْتَفَتْ حِينَئِذٍ آثَارُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: وَاتَّصَفَ مَا يَعْمَلُونَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِعْلِ مَعْنَى الظُّهُورِ لَا الْحُدُوثِ، لِأَنَّ كَوْنَ مَا يَعْمَلُونَهُ بَاطِلًا وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُلْقِيَ مُوسَى عَصَاهُ، وَلَكِنْ عِنْدَ إِلْقَاءِ الْعَصَا ظَهَرَ كَوْنُهُ بَاطِلًا، وَيُبْعِدُ هَذَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى
ظُهُورِ حَدَثِهِ لَا فِي مَعْنَى وُجُودِهِ وَحُدُوثِهِ، خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِلَا دَاعٍ.

صفحة رقم 50

وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ بَطَلَ بِمَعْنى: الْعَدَم. وَفَسَّرَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بِحِبَالِ السَّحَرَةِ وَعِصِيِّهِمْ فَفِي تَفْسِيرِهِ نُبُوٌّ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ، وَعَنِ الْمَقَامِ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ: وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَوَقَعَ الْحَقُّ لِتَسْجِيلِ ذَمِّ عَمَلِهِمْ، وَنِدَاءٌ بِخَيْبَتِهِمْ، تَأْنِيسًا لِلْمُسْلِمِينَ وَتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا.
وَمَا كانُوا يَعْمَلُونَ هُوَ السِّحْرُ، أَيْ: بَطَلَتْ تَخَيُّلَاتُ النَّاسِ أَنَّ عِصِيَّ السَّحَرَةِ وَحِبَالَهُمْ تَسْعَى كَالْحَيَّاتِ، وَلَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالسِّحْرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ كَانَ سِحْرًا عَجِيبًا تَكَلَّفُوا لَهُ وَأَتَوْا بِمُنْتَهَى مَا يَعْرِفُونَهُ.
وَقَدْ عُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَغُلِبُوا بِالْفَاءِ لِحُصُولِ الْمَغْلُوبِيَّةِ إِثْرَ تَلَقُّفِ الْعَصَا لِإِفْكِهِمْ.
وهُنالِكَ اسْمُ إِشَارَةِ الْمَكَانِ أَيْ غُلِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَأَفَادَ بَدَاهَةَ مَغْلُوبِيَّتِهِمْ وَظُهُورَهَا لِكُلِّ حَاضِرٍ.
وَالِانْقِلَابُ: مُطَاوِعُ قَلَبَ وَالْقَلْبُ تَغْيِيرُ الْحَالِ وَتَبَدُّلُهُ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ تَغْيِيرًا مِنَ الْحَالِ الْمُعْتَادَةِ إِلَى حَالٍ غَرِيبَةٍ.
وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ شَائِعًا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْهُ وَلِأَن الرَّاجِعَ قَدْ عَكَسَ حَالَ خُرُوجِهِ.
وَانْقَلَبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَجِيءُ بِمَعْنَى (صَارَ) وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَيْ: صَارُوا صَاغِرِينَ.
وَاخْتِيَارُ لَفْظِ انْقَلَبُوا دُونَ (رَجَعُوا) أَوْ (صَارُوا) لِمُنَاسَبَتِهِ لِلَّفْظِ غُلِبُوا فِي الصِّيغَةِ، وَلِمَا يُشْعِرُ بِهِ أَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى حَالٍ أَدْوَنَ، فَكَانَ لَفْظُ (انْقَلَبُوا) أَدْخَلَ فِي الْفَصَاحَةِ.
وَالصَّغَارُ: الْمَذَلَّةُ، وَتِلْكَ الْمَذَلَّةُ هِيَ مَذَلَّةُ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ، وَمَذَلَّةُ خَيْبَةِ رَجَائِهِمْ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالْقُرْبِ عِنْد فِرْعَوْن.

صفحة رقم 51
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية