
ويماثل هذه الآية الآية ٢٤ من سورة يوسف في ج ٢ وهي: (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لهمّ ولكنه لم يهم لوجود البرهان كما سيأتي تفصيله هناك، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ١٤٦ من سورة الصافات في ج ٢ فراجعه، قال تعالى «فَاجْتَباهُ» اصطفاه واختاره «ربّه» ورد عليه حالته الأولى من الصحة والعافية والنبوة والرسالة «فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ٥٠» الكاملين في الصلاح ومحى زلته وما قيل أن هذه الحادثة كانت قبل النبوة مردود بقوله تعالى في الآية ١٤٠ من سورة الصافات المذكورة «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ»
وهذه آخر الآيات المدنيات وسبب نزولها أن حضرة الرسول أراد أن يدعو على الذين انهزموا في واقعة أحد السنة الثالثة من الهجرة في شهر شوال سنة ٥٦ من الولادة الشريفة إذ اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت تذكيرا لحضرته بما وقع للسيد يونس عليهما الصلاة والسلام وهي أيضا كالمعترضة كما ذكرناه في تفسير الآية ٣٣ المارة فراجعها،
قال تعالى «وَإِنْ» مخففة من الثقيلة والفرق بينها وبين أن النافية أنّ أن النافية لا يعقبها اللام والمخففة لا بد أن يعقبها ولذلك يسمونها اللام الفارقة «يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ» بضم الياء وفتحها أي يزلّون قدمك ليرموك وقرأ بن عباس والأعمش وعيسى ليزهقونك أي يهلكونك وهي كالتفسير وليست من القرآن كما ذكرنا لك في المطلب العاشر في بحث القراءات «بأبصارهم» بشدة نظرهم إليك بها سزرا بعين العداوة فيكادون يصيبونك بأعينهم، روي أن بني أسد كانوا عيّانين حتى أن الناقة أو البقرة إذا مرت بهم يعاينونها ثم يقولون لجارتهم خذي المكتل والدراهم وآتينا بلحم منها فما تبرح حتى تقع فتنكسر أو ترض فتذبح، وكان الرجل منهم يتجوع يومين أو ثلاثة فلا يمر به شيء إلا ويقول لم أر مثله ليعيبه فيهلك، فكلفوا هذا الرجل أن يصيب الرسول بالعين وصارت قريش تقول كلما مر الرسول ما رأينا مثله قط بذلك القصد وليصرفوه عن القيام بما أمره به ربه فعصمه الله منهم ولم يستطيعوا بوجه من الوجه أن يصرفوه عن تبليغ رسالته وانزل هذه الآية

«لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ» القرآن العظيم لكرامتهم إياه «وَيَقُولُونَ» عند سماعه منه «إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ٥١» لجهلهم حقيقته ولتنفير الناس عنه فرد الله عليهم بقوله الأزلي «وَما هُوَ» الذي تصفون به رسولي بالجنة لقراءته لكم إن هو «إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ٥٢» أجمع يتذكرون به ما وقع على الأمم السابقة ويتعظون بأوامره ونواهيه فليس بخرافات الأولين ولا سحر ولا كهانة ولا شعر بل هو كلام الله الأزلي المشتمل على ما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة فمن وفقه الله لفهمه شرح صدره، ومن خذله جعله ضيقا حرجا لا يعيه ولا يفهمه، راجع تفسير الآية ١٢٥ من سورة الأنعام في ج ٢. ترشد إلى هذا. قال ابن عباس وقال الحسن دواء إصابة العين قراءة هذه الآية. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال العين حق.
وزاد البخاري ونهى عن الوشم، وروى مسلم عن أبي عباس أن رسول الله قال العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا. وعن عبد الله بن رفاعه الرزقي أن أسماء بنت عميس كانت تقول يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم قال نعم، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين.
أخرجه الترمذي. وجاء في روح البيان قد صح من طرق عديدة أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر، وعن أبي ذر مرفوعا أن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى جى يصعد حالقا (الجبل الشامخ) ثم يتردى منه. فيفهم من هذا الخبر ان المعان تعتربه حالة الجنون لذلك تسوقه إلى طرح نفسه إرادة قتلها، هذا وقد أنكر المبتدعة هذه الأحاديث التي أخذ بها جماهير العلماء ويرد قولهم ويدحض انكار (القاعدة) وهي أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فانه جائز عقلا فإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه كهذا فان مذهب أهل السنة والجماعة ان العين إنما تفسد وتهلك عند مقابلة الشخص العاين بشخص آخر فتؤثر فيه بقدرة الله تعالى وفعله وقوله ﷺ (ولو كان شيء سابق لقدر لسبقته العين) فيه اثبات القدر وانه حق ومعناه أن الأشياء كلها

بقدر الله ولا يقع شىء على أحد إلا بحسب ما قدره وسبق به علمه راجع الآية ٧٨ من سورة النساء في ج ٣ فما بعدها، هذا ولا يقع ضرر العين من خير أو شر إلا بقدرة الله وفيه حجة اثبات المعين وانها قوية الضرر إذا وافقها القدر وليعلم أن العين من خصائص بعض النفوس ولله أن يخص من شاء بما شاء، ويعطي بعض الحواس قوة لا تكون في العين وذلك من عجائب قدرته وعظائم صنعه لأنه تعالى طوى في هذه النفس اسرارا تتحير منها العقول ولا ينكرها إلا الجهول ولهذا البحث صلة في الآية ٦٧ من سورة يوسف في ج ٢ (ومن باب التأثير) التأثير بالقوة الكهربائية فقد شوهد أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فرقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه وقد يوجه نفسه إليه فيضعف قواه فيغشاه النوم ويتكلم بالعجائب.
الحكم الشرعي: لا يسع العاقل انكار تأثير العين بالصورة التي وصفناها لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها قديما وحديثا، وقد تقع من النفوس الزكية عند استحسان بعض الأشياء كما تقع من النفوس الخبيثة عند كراهتها إياه وعلى المعاين أن يجتنب ذلك ويعتزل الناس وإلا فعلى الامام حبسه ومنعه من مخالطتهم كفا لضرره وينفق عليه من بيت المال، وان لم يفعل، فعلى الأمة أن تطالبه بذلك.
هذا ويوجد أربع سور في القرآن مختومة بما ختمت به هذه السورة، هذه والتكوير والصافات والزمر، والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تفسير سورة المزمل عدد ٣- ٧٢ أو قيام الليل
نزلت بمكة بعد القلم عدا الآيات ١٠ و ١١ و ٢٠ فإنها نزلت بالمدينة، وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمئة وثلاثون حرفا ومثلها في عدد الآية سورة البلد.