آيات من القرآن الكريم

وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭ

ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال: ﴿لولا أن﴾ وعظم الإحسان بالتذكير وصيغة التفاعل فقال: ﴿تداركه﴾ أي أدركه إدراكاً عظيماً كان كلاًّ من النعمة والمنة يريد أن تدرك الآخر ﴿نعمة﴾ أي عظيمة جداً ﴿من ربه﴾ أي الذي أرسله وأحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة له ﴿لنبذ﴾ أي لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً ﴿بالعراء﴾ أي الأرض القفر التي لا بناء فيها ولا نبات، البعيدة من الإنس حين طرح فيها كما حكم بذلك من

صفحة رقم 332

الأزل ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿مذموم *﴾ أي ملوم على الذنب، ولما كان التقدير: ولكنه تداركه بالنعمة فلم يكن في نبذه ملوماً، سبب عنه قوله: ﴿فاجتباه﴾ أي اختاره لرسالته ﴿ربه﴾ ثم سبب عن اجتبائه قوله: ﴿فجعله من الصالحين *﴾ أي الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة وصلح بهم غيرهم، فنبذ بالعراء وهو محمود، ومن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره، وأنت كذلك فأنت أشرف العاملين والعالمين.
ولما نهاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال، وتوعدهم إلى أن قال: ﴿ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم﴾ وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن، فكان التقدير تسبيباً عما فيها من النهي: فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه، قال عاطفاً على هذا المقدر مخبراً له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم، مؤكداً لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم:

صفحة رقم 333

﴿وإن﴾ أي وإنه ﴿يكاد﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل.
ولما كانت «ن» مخففة، أتى باللام التي هي علمها فقال: ﴿ليزلقونك﴾ أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم ﴿بأبصارهم﴾ أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي، وهو من قولهم: نظر إليّ نظراً كاد يصرعني، يعني لو أمكنه أن يصرعني به لصرعني كما قال تعالى ﴿يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ [الحج: ٧٢] وقيل: يهلكونك بإصابة العين، قال القشيري: كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئاً بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ثم نظروا إلى ذلك الشيء وقال: ما أحسنه من شيء، فيسقط المنظور إليه في الوقت، ففعلوا ذلك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: ما أنصحه من رجل، فحفظه الله منهم، وللشيخين عن أبي هريرة

صفحة رقم 334

رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجة: «يحضر بها الشيطان وحسد ابن آدم» ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: «العين حق ولو أن شيئاً سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه رفعه: «العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: «وإنها لتدرك الفارس فتدعثره».
ولما ذكر هذا الإزلاق العظيم، ذكر ظرفه معبراً بالماضي تذكيراً بالحال الماضية فقال: ﴿لما سمعوا الذكر﴾ أي القرآن الذي غلب عليه التذكير بأمور يعليها كل أحد من نفسه، ومن الآفاق كان هواياه أول ما سمعوه حسداً على ما أوتيت من الشرف فكان سماعهم له باعثاً لما عندهم من البغض والحسد على أنه لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً بدلالة ﴿ويقولون﴾ أي قولاً لا يزالون يجددونه.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غاية البعد عما يشين، أكدوا قولهم: ﴿إنه لمجنون *﴾ حيرة في أمرك وتنفيراً عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان

صفحة رقم 335

معك وارتبط بك واغتبط بما جئت به، وعن الحسن أن قراءة هذه الآية دواء للإصابة بالعين.
ولما كان معنى قولهم هذا أن ما يقوله تخاليط من يصرع بالجن، أكد بقصر القلب قوله معجباً منهم ﴿وما﴾ أي والحال أن هذا القرآن أو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ﴿هو إلا ذكر﴾ أي موعظة وشرف ﴿للعالمين *﴾ أي كلهم عاليهم ودانيهم ليس منهم أحد إلا وهو يعلم أنه لا شيء يشبهه في جلالة معانيه وحلاوة ألفاظه وعظمة سبكه ودقة فهمه ورقة حواشيه وجزالة نظومه، ويفهم منه على حسب ما هيأه الله له ليناسب عموم ذكريته عموم الرسالة للمرسل به، وكل ما فيه من وعد ووعيد وأحكام ومواعظ شامل لهم كلهم، فوجبت التفرقة بين مسلمهم ومجرمهم لتصدق أقواله فيكمل جلاله وجماله فقد رجعت خاتمتها - كما ترى - على فاتحتها بالنون والقلم وما يسطرون من هذا الذكر، وسلب ما قالوا فيه من الجنون والإقسام على الخلق العظيم الذي هو هذا الذكر الحكيم، ونبه كونه ذكراً لجميع الخلق بما فيه من الوعد والوعيد على أنه لا بد من الحاقة وهي القيامة ليظهر فيها تأويله وإجماله وتفصيله، ويتضح غاية الاتضاح سبيله،

صفحة رقم 336

وتحق فيها حقائقه وتظهر جلائله ودقائقه بما يقع من الحساب، ويتبين غاية البيان ويظهر الخطأ من الصواب - والله الهادي.
سورة الحاقة
مقصودها تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم للكليات والجزئيات وكمال القدرة على العلويات والسلفيات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك وهو أدل ما فيها عليه) بسم الله (الذي له الكمال كله، نزاهة وحمدا) الرحمن (الذي عم جوده بالعدل كبرا ومجدا) الرحيم (الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده لينالوا بطيب جواره علوا وجدا وفوزا بالأماني وسعدا.

صفحة رقم 337
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي
الناشر
دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء
22
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية