وقال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وليرجعن إلى مكة حتى يطوفوا بالبيت ويشربوا الخمر، وتضرب القينات على رؤوسهم، فأخلف الله ظنهم، وأسروا وقتلوا وانهزموا كأهل هذه الجنة، لما خرجوا عازمين على الصّرام، فخابوا.
١١- الأظهر كما قال القرطبي: أن الحق الذي منعه أهل الجنة المساكين كان واجبا عليهم. وقيل: يحتمل أنه كان تطوعا.
جزاء المتقين وإنكار التسوية بين المطيع والعاصي
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٣]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣)
الإعراب:
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ما: في موضع رفع مبتدأ، ولَكُمْ: خبره، وكَيْفَ: في موضع نصب على الحال ب تَحْكُمُونَ.
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ: إنما كسرت إِنَّ لمكان اللام في لَما ولولا دخول اللام في لَما لكانت مفتوحة لأنها مفعول تَدْرُسُونَ وهو كقولهم: علمت أن في الدار لزيدا.
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ مبتدأ وخبر، وبالِغَةٌ: صفة ل أَيْمانٌ. وقرئ:
بالغة بالنصب على الحال من الضمير في لَكُمْ.
إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ كسرت أَيْمانٌ إما لمكان اللام كما كسرت فيما قبله، أو لأن ما قبله قسم، وهي تكسر في جواب القسم.
يَوْمَ يُكْشَفُ.. يَوْمَ: ظرف منصوب، وعامله إما فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أو فعل مقدر، تقديره: واذكر يوم.
خاشِعَةً.. حال من ضمير يُدْعَوْنَ أو من ضمير يَسْتَطِيعُونَ وأَبْصارُهُمْ:
مرفوع بفعله. وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ: جملة فعلية إما منصوبة على الحال، وإما مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
البلاغة:
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ بينهما طباق.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ؟ والجمل التي بعدها: تقريع وتوبيخ.
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تشبيه مقلوب ليكون أبلغ وأروع لأن الأصل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والثواب.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ كناية عن شدة الهول يوم القيامة.
المفردات اللغوية:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. أي في الآخرة. جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي في الدرجة والمنزلة في الجنان، وهو إنكار التسوية في نتيجة الإسلام والاجرام، أي بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وهو إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون: إن صح أنّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه، لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالا منهم، كما نحن عليه في الدنيا.
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ هذا الحكم الفاسد؟ وهو التفات فيه تعجب من حكمهم، واستبعاد له، وإشعار بأنه صادر من اختلال فكر واعوجاج رأي. أَمْ لَكُمْ كِتابٌ منزل من السماء.
تَدْرُسُونَ تقرؤون، وأَمْ أي بل ألكم. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي لما تختارونه وتشتهونه. أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكدة بالأيمان. بالِغَةٌ متناهية في التوكيد موثّقة.
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم. إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي تحكمون به لأنفسكم، وهو جواب القسم «لأن معنى أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا: أم أقسمنا لكم.
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي سلهم أيهم كفيل لهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من
أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل ألهم أي عندهم شركاء موافقون لهم في هذا القول يكفلون لهم به. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أي فإن كان لهم شركاء كفلاء فليأتوا بشركائهم الكافلين لهم به. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم.
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي اذكر لهم حين شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، أي يوم يشتد الأمر، يقال: كشفت الحرب عن ساق: إذا اشتد الأمر فيهما. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يطلب منهم السجود توبيخا على تركهم السجود. فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته أو زوال القدرة عليه. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ أي ذليلة لا يرفعون أبصارهم. تَرْهَقُهُمْ تغشاهم وتلحقهم. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ في الدنيا. وَهُمْ سالِمُونَ أصحاء متمكنون لا شيء يمنعهم.
المناسبة:
بعد تخويف الكفار بعذاب الدنيا في قوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذكر الله تعالى أحوال السعداء، وأبان أن للمتقين جنات النعيم، ثم ردّ على الكفار الذين يزعمون المساواة في الآخرة بينهم وبين المسلمين من غير كتاب إلهي، ولا عهد ممنوح مؤكد بالأيمان، ولا كفلاء في يوم شديد الأهوال، عسير الحساب على الصلاة وغيرها.
التفسير والبيان:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ إن لكل من اتقى الله وأطاعه، في الدار الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص الذي لا يزول ولا ينقضي، ولا يكدره شيء.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية، قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة.
ثم أجاب الله تعالى عن هذا الكلام بقوله:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ أي كيف نساوي بين الفريقين في
الجزاء، فنجعل من يلتزم الطاعة كمن هو فاجر مجرم عاص لا يبالي بمعصيته؟
كلا فلا تسوية بين المطيع والعاصي.
ثم نفى الله تعالى وجود كل الأدلة العقلية أو النقلية التي تصلح لإثبات التسوية أو تحقيق الدعوى، فقال:
١- ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أي كيف تظنون ذلك، وتحكمون هذا الحكم الأعوج، كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم؟ إن أبسط مبادئ العقل وأصول الرأي يمنع مثل هذا الظن أو الحكم. وهذا نفي الدليل العقلي.
٢- أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي بل ألكم أو بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه، يتضمن حكما مؤكدا كما تدعونه، وتقرؤون فيه، فتجدون المطيع كالعاصي؟! وهل في ذلك الكتاب أن لكم في الآخرة ما تختارون وتشتهون؟ وهذا نفي الدليل النقلي.
٣- أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي بل ألكم أو معكم عهود عند الله موثقة مؤكدة ثابتة إلى يوم القيامة في أن يدخلكم الجنة، ويحصل لكم ما تريدون وتشتهون، وينفّذ لكم الحكم الذي تصدرونه؟
وهذا نفي الوعد الإلهي بما توقعوا وظنوا.
٤- سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي قل لهم يا محمد موبخا لهم ومقرّعا: من هو المتضمن المتكفل بهذا، أو أيهم بذلك كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟
٥- أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي بل ألهم شركاء لله بزعمهم من الأصنام والأنداد قادرون على أن يجعلوهم مثل المسلمين في الآخرة؟
فإن كان لهم شركاء، فليأتوا بهم لمناصرتهم إن كانوا صادقين في دعواهم. وهذا نفي التقليد وإبطال جوهر الاعتقاد لدى المشركين.
والخلاصة: المراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم، ولا نقلي، وهو كتاب يدرسونه، ولا عهد لهم به عند الله، ولا كفيل لهم يتكفل بما يقولون، ولا لهم مؤيد يوافقهم من العقلاء، مما يدل على بطلان دعواهم.
ثم تحداهم الله تعالى بالإتيان بالشركاء يوم اشتداد الأمر، فقال:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ أي فليأتوا بشركائهم لإنقاذهم يوم يشتد الأمر ويعظم الخطب في القيامة، وحين يدعى هؤلاء الشركاء وأنصارهم من الكفار والمنافقين إلى السجود توبيخا لهم على تركه في الدنيا، فلا يتمكنون من السجود لأن ظهورهم تيبس وتصبح طبقا واحدا، فلا تلين للسجود.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقا واحدا».
والمراد بقوله: يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ شدة الأمر وعظم الخطب لأن الله تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحوادث، فليس المراد بالساق الجارحة، وإنما ذلك مؤول بما ذكر.
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَهُمْ سالِمُونَ أي تكون أبصارهم ذليلة خاسئة منكسرة، تغشاهم ذلة شديدة، وحسرة وندامة، وقد كانوا في الدنيا مدعوين إلى الصلاة والسجود لله تعالى، فأبوا وتمردوا وامتنعوا، مع أنهم كانوا سالمين أصحاء، متمكنين من الفعل، لا علل ولا موانع تمنعهم من أداء السجود. قال النخعي والشعبي: المراد بالسجود:
الصلوات المفروضة.
والخلاصة: أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا
وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا، وبما أنهم تكبروا عن السجود في الدنيا مع صحتهم وسلامتهم، عوقبوا بنقيض ما كانوا عليه، بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب عز وجل، فيسجد له المؤمنون، ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا من المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهره طبقا واحدا، كما ثبت في الحديث المتقدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن للمتقين الملتزمين أوامر الله المجتنبين نواهيه في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا.
٢- لا تسوية في الجزاء الأخروي بين المسلمين والكفار، أو بين الطائعين والعصاة، وذلك بحكم الفضل والإحسان، لا من قبيل الاستحقاق على الله شيئا.
٣- استنكر الله تعالى حكم المشركين الأعوج في المساواة بينهم وبين المسلمين، كأن أمر الجزاء مفوض إليهم، حتى يحكموا بما شاؤوا أن لهم من الخير ما للمسلمين.
واستنكر أيضا وجود كتاب سماوي يجدون فيه المطيع كالعاصي، وأن لهم ما يختارون وما يشتهون.
ونفى أن يكون لهم عهود ومواثيق مؤكدة بالله تعالى، يستوثقون بها في أن يدخلهم الجنة، فليس الأمر كما يحكمون ويظنون.
٤- أنكر الله تعالى عليهم كذلك أن يكون لهم كفيل بما زعموا، قائم بالحجة والدعوى، أو أن يكون لهم ناس شركاء، أي شهداء يشهدون على ما زعموا، إن كانوا صادقين في دعواهم.
٥- من أنواع العذاب في الآخرة للكفار: أنهم يوم يشتد الأمر، ويعظم