آيات من القرآن الكريم

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ

عنه القدرة عن أكثر الأشياء، فلا يصير هو قادرا على كل شيء، وإنما هو قادر على البعض، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢).
قال أبو بكر الأصم: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) أي: خلقكم أمواتا: نطفة وعلقة ومضغة، ثم أحياكم (لِيَبْلُوَكُمْ).
وقال غيره: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) ليجزيكم بعده، والحياة؛ ليبتليكم بها، واستدل بقوله -
تعالى -: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض، وهي حالة الحياة، ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم صعيدا [جرزًا] بعد الابتلاء بقوله: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا).
وعندنا: أنه خلقهما جميعا للابتلاء؛ لأن اللَّه - تعالى - خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس، وتنفر عنه، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها، والمحنة في الترغيب والترهيب، فثبت أن في خلق الموت محنة؛ فيكون قوله - تعالى -: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) كأنه يقول: خلق الموت مرهبا، وخلق الحياة مرغبة؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي: ليبلوكم أيكم أرهب من الشر، وأرغب في الخير؟
ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد، ولا مخلص لمخلوق، وكذلك الحياة، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب، ولا مما يوجد بالكد والسعي؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة، وصار الموت مرهبا عن الموت الدائم، والموت الدائم هو العذاب الدائم، الذي لا ينقطع كما قال - تعالى -: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ)، أي: لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم، والحياة صارت مرغبة في مثلها، فنقوم بطلبه، ووجب القول بالبعث أيضًا؛ إذ الراغب إنما يصل إلى ما يرغب فيه بالبعث، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث.
وفيه إيجاب القول بالرسالة؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة عن العذاب، وهما جميعًا غائبان، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.

صفحة رقم 103

ثم الأصل في قوله - تعالى -: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أنه إنما يحسن عمله بحسن رغبته وسوء عمله بسوء رغبته ورهبته، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء، ويعتبر بهما، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله، ومن لم يتفكر فيهما، ولم يعتبر بهما، ساء عمله، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين، وكذلك الدنيا وما فيها أنشئت دلالة على طريق الآخرة، فالسمع يدل على السمع، والبصر على البصر، وآلامها تدل على آلام الآخرة، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيه دليل على إضمار قوله: وأيكم أسوأ عملا
على مقابلة الأول، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر، واللَّه أعلم.
فإن قال قائل: كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ)، والابتلاء في الشاهد؛ لاستظهار ما خفي، ولاستحضار ما غاب، واللَّه تعالى لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه أمر، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!
فجوابه أن نقول: إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا، وهذا كما أضيف الاستدراج والمكر إلى اللَّه تعالى؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته، فيعتبر بإحسانك إليه، ثم تأخذه من وجه أمنه، ومن حيث لا يشعر به، هذا هو معنى المكر في الشاهد، وقد وجد الإحسان من اللَّه تعالى إلى أعدائه، ووجد منهم الاغترار بالنعم، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني: أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى؛ لنفي مضرة تصل إليه، واللَّه تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم

صفحة رقم 104
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية