آيات من القرآن الكريم

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

بعض أدلة القدرة الإلهية
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥)
الإعراب:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طِباقاً صفة سَبْعَ وطِباقاً: إما جمع «طبق» كجمل وجمال، أو جمع «طبقة» كرحبة ورحاب: ويصح أن تكون «طباقا» مصدرا أو حالا.
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ كَرَّتَيْنِ: منصوب في موضع المصدر، كأنه قال: فارجع البصر رجعتين، ويراد بالتثنية هنا الكثرة، لا حقيقة التثنية، بدليل قوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ والبصر لا ينقلب خاسئا حسيرا بمجرد مرتين، وإنما يصير كذلك بمرار جمة، مثل قولهم: لبيك وسعديك، أي إلبابا بعد إلباب، وإسعادا بعد إسعاد، يعني: كلما دعوتني أجبتك إجابة بعد إجابة، من قولهم: ألب بالمكان: إذا أقام به.
البلاغة:
بِيَدِهِ الْمُلْكُ استعارة تمثيلية، أو في لفظ «اليد» مجاز، ويكون قوله الْمُلْكُ على الحقيقة.
لِيَبْلُوَكُمْ استعارة تمثيلية، شبه معاملة الله لعباده بالابتلاء والاختبار.
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ بينهما طباق.
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وضع الموصول للتفخيم والتعظيم، أي له السلطان والتصرف المطلق.

صفحة رقم 8

فَارْجِعِ الْبَصَرَ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ إطناب بتكرار الجملة مرتين لزيادة التنبيه والتذكير.
قَدِيرٌ، حَسِيرٌ، السَّعِيرِ سجع مرصع، وكذا قوله: الْغَفُورُ، فُطُورٍ.
المفردات اللغوية:
تَبارَكَ تعاظم وتعالى بالذات عن كل ما سواه، وكثير خيره وإنعامه، من البركة: وهي النماء والزيادة الحسية أو المعنوية. بِيَدِهِ الْمُلْكُ المالك المطلق وصاحب السلطان المتفرد، وبِيَدِهِ نؤمن باليد كما جاء على مراد الله، والظاهر من الآية هنا بيان قدرة الله وسلطانه ونفاذ تصرفه في ملكه. خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ أوجده أو قدّره أزلا، والْمَوْتَ عدم الحياة المعروفة، وَالْحَياةَ ما به الإحساس والحيوية. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم في حقل الحياة، أي ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم. أَحْسَنُ عَمَلًا أخلصه لله وأطوعه. الْعَزِيزُ القوي الغالب الذي لا يغلبه شيء، ولا يعجزه عقاب المسيء. الْغَفُورُ الكثير المغفرة والستر لذنوب عباده إذا تابوا.
طِباقاً متطابقا بعضها فوق بعض، بحيث يكون كالجزء منه، وكالقبة على الأخرى.
تَفاوُتٍ تباين وتناقض وعدم تناسب. فَارْجِعِ الْبَصَرَ أعدّه إلى السماء. فُطُورٍ شقوق وصدوع، جمع فطر. كَرَّتَيْنِ مرة بعد مرة أو كرة بعد كرة، والمراد بذلك التكرار والتكثير.
يَنْقَلِبْ يرجع. خاسِئاً صاغرا ذليلا عن أن يرى شيئا من العيب أو الخلل في خلق السموات. حَسِيرٌ كليل منقطع، لم يدرك المطلوب بعد كثرة المراجعة.
السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السموات إلى الأرض. بِمَصابِيحَ بنجوم وكواكب مضيئة، جمع مصباح. رُجُوماً راجمات أو مراجم يرجم ويرمى بانقضاض الشهب عليها، جمع رجم.
لِلشَّياطِينِ شياطين الجن والإنس. وَأَعْتَدْنا هيأنا. عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المستعرة الموقدة.
التفسير والبيان:
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يمجد الله تعالى نفسه الكريمة للتعليم والإرشاد، ويخبر أنه سبحانه المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، وأنه التام القدرة على كل الأشياء، لا يعجزه شيء، بل هو بتصرف في

صفحة رقم 9

ملكه كيف يريد، من إعزاز وإذلال، ورفع ووضع، وإنعام وانتقام، وإعطاء ومنع، لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لحكمته وعدله وإطلاق سلطانه.
وكلمة تَبارَكَ تعالى وتعاظم، وهي تدل على غاية الكمال ومنتهى التعظيم والإجلال، ولذا لا يجوز استعمالها في حق غير الله تعالى.
تدل الآية على أمور ثلاثة: أن الله تعالى وتعاظم عن كل ما سواه من المخلوقات، وأنه المالك المتصرف في السموات والأرض في الدنيا والآخرة، وهو صاحب القدرة التامة والسلطان المطلق على كل شيء.
ومن مظاهر قدرته وعلمه قوله سبحانه:
١- الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ أي إنه تعالى موجد الموت والحياة ومقدرهما من الأزل، وهو الذي جعلهم عقلاء ليدركوا معاني التكليف ويقوموا به، وليعاملهم معاملة المختبر لأعمالهم، فيجازيهم على ذلك، وليعرّفهم أيهم أطوع وأخلص لله وخير عملا، وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد، الكثير المغفرة والستر لذنوب من تاب وأناب بعد ما عصاه وخالفه، فهو سبحانه مع كونه عزيزا منيعا يغفر ويرحم، ويعفو ويصفح، كما في آية أخرى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر ١٥/ ٤٩- ٥٠].
والآية دليل على أن الموت أمر وجودي، لأنه مخلوق. والموت: انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له، والحياة: تعلق الروح بالبدن واتصالها به، وإيجاد الحياة معناه: خلق الروح في الكائنات الحية، ومنها إيجاد الإنسان.
والمقصد الأصلي من الابتلاء: هو ظهور كمال إحسان المحسنين.
روى ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ

صفحة رقم 10

قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله أذلّ بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة، ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء».
وقدم الموت على الحياة في الآية لأنه أقوى داعيا إلى العمل.
٢- الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أي إنه تعالى الذي أوجد وأبدع السموات السبع، المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء منفصلة عن الأخرى كما جاء في حديث الإسراء وغيره، يجمع بينها نظام الجاذبية، ما تشاهد أيها الناظر المتأمل في مخلوقات الرحمن من تناقض وتباين وعدم تناسب، واردد طرفك في السماء، وتأمل: هل تشاهد فيها من شقوق وصدوع؟! وهذا دليل على تعظيم خلقها، وسلامتها من العيوب، وكون خالقها ذا قدرة تامة وعلم دقيق شامل محكم متقن.
ونظير الآية: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد ١٣/ ٢].
والسماء: مادة لا يعلم حقيقتها إلا الله، تبعد عن الأرض مسيرة خمس مائة عام بالقياسات القديمة، وتتحدد الآن بالأميال حسبما تدل عليه برامج غزو الفضاء. وقيل: إنها مدارات الكواكب، ويرى العلماء الفلكيون أنها فراغ يدور فيها الكوكب، وإذا عرفنا أن الكواكب ذات أبعاد متفاوتة ومسافات مختلفة، أدركنا تصور كرات السموات السبع. وتكوّن المجموعة الشمسية والمجموعات النجمية ما يعرف باسم «الكون». والمجموعة الشمسية (أو النظام الشمسي) تطلق في علم الفلك على الشمس والكواكب السيّارة وتوابعها، وهي بترتيب بعدها عن الشمس: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، أورانوس، نبتون، بلوتو. والمجموعات النجمية شموس نائية البعد تتغير ألوان بعضها لعدة أيام أحيانا.

صفحة رقم 11

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ أي ثم ردد البصر ودقق مرة بعد مرة مهما تكاثرت المرات، يرجع إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء، وهو كليل عيي من كثرة التأمل ومعاودة النظر. ومعنى الآية بعبارة أخرى: إنك أيها الإنسان المخاطب لو كررت البصر مهما كررت، لانقلب إليك أو رجع إليك البصر ذليلا عن أن يرى عيبا أو خللا.
والمراد بقوله: كَرَّتَيْنِ تكثير النظر لمعرفة الخلل.
٣- وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ أي ولقد زيّنا أقرب السموات إلى الناس بكواكب ثوابت وسيارات، فصارت في أحسن خلق وأبهج شكل، وسميت الكواكب مصابيح لأنها تضيء كإضاءة السراج، وجعلنا تلك الكواكب بما ينقضّ منها من الشهب أو من دونها راجمات يرجم بها الشياطين، وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب النار المستعرة الموقدة بسبب فسادهم وإفسادهم.
ورجم الشياطين يعدّ فائدة أخرى للكواكب، غير كونها زينة للسماء الدنيا، كما قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل ١٦/ ١٦].
قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر، فمن تأول فيها غير ذلك، فقد قال برأيه وتكلف ما لا علم له به.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى، وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات ٣٧/ ٦- ١٠].

صفحة رقم 12

فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- تعاظم الله بالذات عن كل ما سواه، وهو مالك السموات والأرض في الدنيا والآخرة، والقادر على كل شيء من إنعام وانتقام.
٢- الله هو الذي أوجد الموت وأوجد الحياة ليعامل العباد معاملة المختبر، ويقيم الدليل عليهم أيهم أطوع وأخلص لله، وهو سبحانه القوي الغالب في انتقامه ممن عصاه، الغفور لمن تاب.
قال ابن عمر: تلا النّبي صلّى الله عليه وسلّم: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حتى بلغ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله.
والابتلاء: هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي؟
٣- الله هو الذي أوجد أيضا السموات السبع متطابقة بعضها فوق بعض، ما ترى في خلقها من اعوجاج وصدوع، ولا تناقض ولا تباين، بل هي مستقيمة مستوية، دالة على خالقها، لا عيب ولا خلل فيها.
٤- إذا كرر الإنسان النظر في السموات مرات كثيرة، لا يرى فيها عيبا بل يتحيّر بالنظر إليها، ويرجع إليه بصره خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك، وقد بلغ الغاية في الإعياء.
٥- زيّن الله السماء الدنيا وهي القربى أقرب السموات إلى الناس بكواكب مصابيح لإضاءتها، وجعل منها شهبا تنقض على مردة الشياطين، وأعد الله للشياطين أشد الحريق بسبب الكفر والضلال والإفساد.
والآيات كلها دليل على كونه تعالى كامل القدرة والعلم.

صفحة رقم 13
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية