
(فإذا بلغن أجلهن) أي قاربن انقضاء أجل العدة وشارفن آخرها (فأمسكوهن بمعروف) أي راجعوهن بحسن معاشرة، وإنفاق مناسب، ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن بطلاق آخر، لأجل إيجاب عدة أخرى، وغير ذلك (أو فارقوهن بمعروف) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فيملكن نفوسهن مع إيفائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق، وترك المضارة لهن بالفعل والقول، فقد ضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.
(وأشهدوا ذويْ عدل منكم) أي صاحبي عدالة، فإن العدل ضد الجور وهو يرجع إلى معنى العدالة، وهذه شهادة على الرجعة، وقيل: على الطلاق، وقيل: عليهما قطعاً للتنازع وحسماً لمادة الخصومة، والأمر للندب لئلا يقع بينهما التجاحد، كما في قوله: (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقيل: إنه للوجوب وإليه ذهب الشافعي، قال: الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وفي قول الشافعي: إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد، وعن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد، قال: بئسما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة، فيشهد على طلاقه وعلى مراجعته ويستغفر الله.
(وأقيموا الشهادة لله) هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شهدوا به تقرباً إلى الله. وإنما حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشهود، لأنه ربما يؤدي إلى أن يترك الشاهد مهماته ولما فيه من عسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه، وكان للشاهد عوائق، وقيل: الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة أي الشهود عند الرجعة فيكون قوله: (وأشهدوا ذوي عدل

منكم) أمراً بنفس الإشهاد، (وأقيموا الشهادة) أمر بأن تكون خالصة لله لا لمشهود عليه، أوْ لَهُ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر.
(ذلكم) أي ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة لله، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا (يوعظ به) أي يلين ويرقق به (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) خص المؤمن لأنه المنتفع بذلك دون غيره.
(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) مما وقع فيه من الشدائد والمحن، والجملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، يجعل الله له مخرجاً مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه ويعطيه الخلاص. قال ابن مسعود: مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله، وأن الله هو الذي يعطيه، وهو يمنعه، وهو يبتليه، وهو يعافيه، وهو يدفع عنه.
وقال ابن عباس ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
" وعن جابر قال: نزلت هذه الآية في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال، فأتى رسول الله ﷺ فسأله فقال: اتق الله واصبر، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ابن له بغنم كان العدو أصابوه فأتى رسول الله ﷺ فسأله عنها وأخبره خبرها فقال: كلها فنزلت: (ومن يتق الله الآية) " أخرجه (١) الحاكم وصححه وضعفه الذهبي.
" وعن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه
_________
(١) رواه الحاكم.

فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه فنزلت هذه الآية " أخرجه (١) ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه، وفي الباب روايات تشهد لهذا، وعن عائشة في الآية قالت: يكفيه هم الدنيا وغمها.
" وعن أبي ذر قال: جعل رسول الله ﷺ يتلو هذه الآية فجعل يرددها حتى نعست، ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم "، وفي الباب أحاديث، وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن. مخرجاً مما نهى الله عنه، قال أبو العالية مخرجاً من كل شيء ضيق على الناس، قال الشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرجاً في الرجعة في العدة، وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
_________
(١) رواه مسلم.