
العبادة، وحذرهم من اقتراف المعاصي فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.
أى: وعليكم- أيها الناس- أن تطيعوا الله- تعالى- طاعة تامة، وأن تطيعوا رسوله في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.
فإن أعرضتم عن ذلك، وانصرفتم عما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فلا ضرر على رسولنا بسبب إعراضكم لأن حسابكم وجزاءكم علينا يوم القيامة، وليس على رسولنا ﷺ بالنسبة لكم سوى البلاغ الواضح البين، بحيث لا يترك بابا من أبواب الخير إلا ويبينه لكم، ولا يترك بابا من أبواب الشر إلا وحذركم منه.
اللَّهُ- تعالى- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أى: هو المستحق للعبادة دون غيره، فأخلصوا له هذه العبادة والطاعة وَعَلَى اللَّهِ- تعالى- وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أى:
فليفوضوا أمورهم إليه، وليعقدوا رجاءهم عليه فهو- سبحانه- صاحب الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وفي نهاية السورة الكريمة، وجه- سبحانه- نداء إلى المؤمنين، حذرهم فيه من فتنة الأزواج والأولاد والأموال، وحضهم على مراقبته وتقواه، وحذرهم من البخل والشح، ووعدهم بالأجر العظيم متى أطاعوه.. فقال- تعالى-:
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رجلا سأله عن هذه الآيات فقال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله ﷺ فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم- ليهاجروا.
فلما أتوا رسول الله ﷺ أى بالمدينة- رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم- أى: يعاقبوا أولادهم وأزواجهم- فأنزل الله- تعالى- هذه الآيات «١».
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى، شكا إلى النبي ﷺ جفاء أهله وولده فنزلت «٢».
وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان، لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه هذه الآيات من توجيهات سامية وإرشادات عالية.. فإن من شأن الإيمان الحق، أن يحمل صاحبه على طاعة الله- عز وجل-.
ومِنْ في قوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ.. للتبعيض.
والمراد بالعداوة ما يشمل العداوة الدينية والدنيوية، بأن يكون هؤلاء الأولاد والأزواج يضمرون لآبائهم وأزواجهم العداوة والبغضاء وسوء النية، يسبب الاختلاف في الطباع أو في العقيدة والأخلاق.
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد العزم على هذه المعاقبة.
والصفح: الإعراض عن الذنب وإخفاؤه، وعدم إشاعته.
أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، إن بعض أزواجكم وأولادكم، يعادونكم ويخالفونكم في أمر دينكم. وفي أمور دنياكم، فَاحْذَرُوهُمْ أى: فاحذروا أن تطيعوهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينكم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وَإِنْ تَعْفُوا- أيها المؤمنون- عنهم، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه
(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤٠.

وَتَصْفَحُوا عنهم، بأن تتركوا عقابهم بدون عزم عليه.. وَتَغْفِرُوا ما فرط منهم من أخطاء، بأن تخفوها عليهم.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قائم مقام جواب الشرط. أى: وإن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة، يكافئكم الله- تعالى- على ذلك مكافأة حسنة، فإن الله- تعالى- واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون.
وقوله- تعالى-: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
تعميم بعد تخصيص، وتأكيد التحذير الذي اشتملت عليه الآية السابقة.
والمراد بالفتنة هنا: ما يفتن الإنسان ويشغله ويلهيه عن المداومة على طاعة الله- تعالى-.
أى: إن أموالكم وأولادكم- أيها المؤمنون- على رأس الأمور التي تؤدى المبالغة والمغالاة في الاشتغال بها، إلى التقصير في طاعة الله- تعالى-، وإلى مخالفة أمره. والإخبار عنهم بأنهم تْنَةٌ
للمبالغة، والمراد أنهم سبب للفتنة أى: لما يشغل عن رضاء الله وطاعته، إذا ما جاوز الإنسان الحد المشروع في الاشتغال بهما.
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أى: بلاء ومحنة، لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك. وفي الحديث. يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: أكل عياله حسناته.
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.. عن بريدة قال. كان النبي ﷺ يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل ﷺ من فوق المنبر، فحملهما.. ثم صعد المنبر فقال: صدق الله إذ يقول: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، إنى لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران، لم أصبر أن قطعت كلامي، ونظرت إليهما «١».
وقال الجمل: قال الحسن في قوله- تعالى-: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ أدخل- سبحانه- مِنْ للتبعيض، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر من في قوله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
، لأنهما لا يخلوان من الفتنة، واشتغال القلب بهما، وقدم الأموال على الأولاد، لأن الفتنة بالمال أكثر. وترك ذكر الأزواج في الفتنة، لأن منهن من يكن صلاحا وعونا على الآخرة «٢».
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٥٣. [.....]

وقوله- سبحانه-: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
معطوف على جملةنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
أى: والله- تعالى- عنده أجر عظيم، لمن آثر محبة الله- تعالى- وطاعته، على محبة الأزواج والأولاد والأموال.
والفاء في قوله- سبحانه- فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ للإفصاح والتفريع على ما تقدم.
ومَا في قوله: مَا اسْتَطَعْتُمْ مصدرية ظرفية.
والمراد بالاستطاعة: نهاية الطاقة والجهد.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله- تعالى- فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم في طاعة الله- تعالى- وداوموا على ذلك في جميع الأوقات والأزمان.
وليس بين هذه الآية، وبين قوله- تعالى- اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ تعارض، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده، ونهاية طاقته، في المواظبة على أداء ما كلفه الله به، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال: إن الآية التي معنا نسخت الآية التي تقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
قال الآلوسى: أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت أقدامهم. فأنزل الله هذه الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تخفيفا على المسلمين «١».
وحذف متعلق التقوى، لقصد التعميم، أى: فاتقوا الله مدة استطاعتكم في كل ما تأتون وما تذرون، واعلموا أنه- تعالى- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ومن الأحاديث التي وردت في معنى الآية الكريمة، ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله ﷺ على السمع والطاعة، فلقننى «فيما استطعت».
وعطف قوله- تعالى- وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا على قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ من باب عطف الخاص على العام، للاهتمام به.

أى: فاتقوا الله- تعالى- في كل ما تأتون وما تذرون، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر، وأطيعوه في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.
وَأَنْفِقُوا مما رزقكم الله- تعالى- من خير، يكن ذلك الإنفاق خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في دنياكم وفي آخرتكم.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أى: ومن يستطع أن يبعد نفسه عن الشح والبخل.
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أى: الفائزون فوزا تاما لا نقص معه.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بالحض على الإنفاق في سبيله فقال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعِفْهُ لَكُمْ.
أى: إن تبذلوا أموالكم في وجوه الخير التي يحبها الله- تعالى-، بذلا مصحوبا بالإخلاص وطيب النفس، يضاعف الله- تعالى- لكم ثواب هذا الإنفاق والإقراض بأن يجعل لكم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وَيَغْفِرْ لَكُمْ فضلا عن ذلك ذنوبكم ببركة هذا الإنفاق الخالص لوجهه الكريم.
وَاللَّهُ شَكُورٌ أى: كثير الشكر لمن أطاعه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة المذنبين.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أى: هو- سبحانه- يعلم علما تاما ما كان خافيا عليكم وما كان ظاهرا لكم، وهو- عز وجل- القوى الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.
وبعد فهذا تفسير لسورة «التغابن» نسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الاسكندرية- العجمي صباح الخميس ٣٠ من شوال سنة ١٤٠٦ هـ ٢٦ من يونيو ١٩٨٦ م كتبه الراجي عفو ربه د/ محمد سيد طنطاوى

تفسير سورة الطّلاق
صفحة رقم 437
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة وتمهيد١- سورة «الطلاق» من السور المدنية الخالصة، وقد سماها عبد الله بن مسعود بسورة النساء القصرى، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران.
وكان نزولها بعد سورة «الإنسان» وقبل سورة «البينة»، وترتيبها بالنسبة للنزول:
السادسة والتسعون، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف، فهي السورة الخامسة والستون.
٢- وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري، وفيما عداه اثنتا عشرة آية.
٣- ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق، وما يترتب عليه من أحكام العدة، والإرضاع، والإنفاق، والسكن، والإشهاد على الطلاق، وعلى المراجعة.
وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى الله- تعالى- وعن مظاهر قدرته، وعن حسن عاقبة التوكل عليه، وعن يسره في تشريعاته، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله ﷺ ليتلو على الناس آيات الله- تعالى- ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه- سبحانه- وقد افتتحت بقوله- تعالى-. صفحة رقم 439