
عليه. والتقوّى به فى أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن، وهى كالخاتمة والفذلكة لما تقدم.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
تفسير المفردات
فتنة: أي بلاء ومحنة، ومن يوق: أي من يحفظ نفسه، والشح: البخل مع الحرص، والقرض الحسن: هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وذكر أن المؤمن ينبغى أن يتوكل على الله تعالى ولا يعتمد إلا عليه- ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان

الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده، فإنه ربما عصى الله تعالى بسببهما، فغصب المال أو غيره لأجلهما، فعليه أن يتقى الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولينفق ذو سعة من سعته، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيرى الدنيا والآخرة، ومن أقرض الله قرضا حسنا فالله يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد، وهو العزيز الحكيم فى تدبير شئون عباده.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله ﷺ فرأوا الناس قد فقهوا فى الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا» الآية.
وفى رواية عنه أنه قال:
كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول: أما والله لئن جمع الله بينى وبينكم فى دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ، فجمع الله بينهم فى دار الهجرة فأنزل الله الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا الله ورسوله: إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم، والأعمال الصالحة التي تنفعكم فى آخرتكم، وربما حملوكم على السعى فى اكتساب الحرام، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم.
روى أن النبي ﷺ قال: «يأتى زمان على أمتى يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك».
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم، ليكونوا فى عيش رغد فى حياته

وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك، وإن لم يطالبوه فيهلك.
ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا: إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم، وجرّعوهم الغصص والآلام، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم فى الدسم أو إلى قتلهم، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر.
والخلاصة- إنه إما يراد بالعداوة، العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة فى الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.
ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال:
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها، وتغفروا بإخفائها، وتمهيد معذرتهم فيها، فهو خير لكم فإن الله رحيم بكم وبهم، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم.
ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال:
ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع فى الآثام، وارتكاب كبير المحظورات.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى».
أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتى المال».
َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».
ونحو هذا ما جاء فى قوله: «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه.
(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوى الحاجات، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة، وسعادة الدين والدنيا، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وهذا حثّ على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.
ثم زاد فى الحث على الإنفاق فقال:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال- يكن من الفائزين بكل ما يرجو، ونيل كل ما يبغى فى دينه ودنياه، فيكون محببا إلى الناس، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه، سعيدا فى الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته.
ثم بالغ فى الحث على الإنفاق أيضا فقال:
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا فى طاعة الله متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس- يضاعف لكم ذلك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم
جاء فى الصحيحين: «إن الله يقول:
من يقرض غير ظلوم ولا عديم» ؟
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله: استقرضت عبدى فأبى أن يقرضنى، ويشتمنى عبدى وهو لا يدرى، يقول وا دهراه وا دهراه» وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية» أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.

ونحو الآية ما جاء فى سورة البقرة: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً».
ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب فى النفقة فقال:
(وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا.
ثم ذكر ما يزيد فى الترغيب فى النفقة أيضا فقال:
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه فى أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم فى تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة.
خلاصة ما حوته السورة
(١) صفات الله الحسنى.
(٢) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.
(٣) إنكار المشركين للبعث.
(٤) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر الله وتقديره.
(٥) تسلية الرسول ﷺ بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
(٦) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
(٧) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.
(٨) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل الله.