آيات من القرآن الكريم

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ ۗ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬ

الموقف الذي نزلت فيه على ما سوف يأتي شرحه بعد.
وورود الآيات بهذا الأسلوب يدل على أن الحادث أو الموقف قد جعل للتهوين والتثبيت والعظة لعامة المؤمنين أيضا بالإضافة إلى صاحب العلاقة، ولقد انطوت على علاج نفساني قوي يستمد منه المؤمن قوة وصبرا وسكينة وطمأنينة وإسلاما لله واتكالا عليه في الأزمات والملمات الطارئة أو المتوقعة التي لا تخلو حياة الناس منها في كل وقت ومكان. نرى الأولى بل الأوجب أن يوقف عند ذلك في موضوع قدر الله تعالى وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة تقديرا محتوما عليهم. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها على ضوء الشرح المستلهم من ذلك والله تعالى أعلم.
ولقد تكرر مثل هذه المعالجات النفسية في ظروف مماثلة مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها وأوردنا في صددها بعض الأحاديث النبوية وبخاصة في سياق الآية [١٥٥] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثين نبويين فيهما من التلقين والعلاج ما هو متسق من محتويات الآيات وتدعيم لما نبهنا عليه. واحدا منهما وصفه بأنه متفق عليه جاء فيه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله قضاء إلّا كان خيرا له.
إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن»
وواحدا رواه الإمام أحمد جاء «إن رجلا أتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله.
قال أريد أهون من هذا يا رسول الله قال: لا تتهم الله في شيء قضى لك به»
.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

صفحة رقم 550

وفي هذه الآيات:
(١) تنبيه للمؤمنين بأن من أزواجهم وأولادهم من يكون عدوّا لهم يجب الحذر منه.
(٢) ووصية لهم على كل حال بالعفو والصفح والغفران تأسيا بالله الغفور الرحيم.
(٣) وتنبيه لهم كذلك بأن أموالهم وأولادهم هي بوجه عام امتحان لهم في الاختيار بين واجبهم نحو الله والمصلحة العامة وبين أموالهم وأولادهم. وبأن ما عند الله من الأجر العظيم هو أعظم وأجدى وبأن من مصلحتهم أن يختاروا ما فيه رضاء الله حتى ينالوا ما عنده.
(٤) وتعقيب على ذلك فيه حثّ لهم على تقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم، وعلى الطاعة لله ورسوله وبذل المال في سبيل الله ووجوه البرّ ففي هذا خاصة خير ونفع لهم. وأن المفلح هو الذي ينجو من شحّ النفس والبخل. وأنهم إذا أنفقوا فكأنهم يقرضون الله قرضا حسنا سوف يردّه عليهم مضاعفا مع غفران ما يلمون به من ذنوب وهو الشكور لفاعلي الخير الذي يعامل عباده بالحلم والعطف والتسامح. العليم بالحاضر والمستقبل المغيب القوي القادر الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات أو بالأحرى الآيتين

صفحة رقم 551

الأوليين «١» منها واحدة معزوة إلى ابن عباس ومجاهد، جاء فيها أنها نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم نساؤهم وأولادهم عنها. وقد روى الترمذي هذا في حديث عن ابن عباس فيه زيادة حيث جاء في الحديث «هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبيّ فأبى أزواجهم وأولادهم ذلك ومنعوهم فلما أتوا رسول الله ﷺ ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله الآية» «٢» وثانية معزوة إلى عطاء بن يسار من كبار علماء التابعين جاء فيها «أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرقّ لهم ويقيم» «٣» وثالثة معزوة إلى عكرمة من علماء التابعين جاء فيها «كان الرجل يريد أن يأتي النبي ﷺ فيقول له أهله إلى أين تذهب وتدعنا. فإذا أسلم وفقه قال لأرجعن إلى الذين ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. فأنزل الله وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) » «٤».
وعلى كل حال فروح الآيتين الأوليين ومضمونهما يلهمان أنهما نزلتا في مناسبة مماثلة. ويتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها وأن الآيات السابقة جاءت تمهيدا أو مقدمة لها وفي كلتا المجموعتين أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله.
وهذا التشارك بنوع خاص قرينة قوية على الاتصال بين المجموعتين.
ويلحظ أن الخطاب في الآيات موجه إلى جميع المؤمنين حيث يتبادر من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليكون الحادث وسيلة لتوجيه الكلام إلى المسلمين جميعهم ويكون لهم فيه عظة وتنبيه وتحذير على النحو الذي شرحنا به الآيات. وهذا ما جرى عليه التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.

(١) تفسير الطبرسي والبغوي وابن كثير.
(٢) التاج ج ٤ ص ٢٣٨.
(٣) تفسير البغوي.
(٤) تفسير الطبري.

صفحة رقم 552

والآيات بهذا التعميم والإطلاق مستمرة التلقين والمدى من جميع النواحي بالنسبة لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان في المناسبات والمواقف المماثلة.
وواضح من الشرح والمناسبات المروية أن جملة عَدُوًّا لَكُمْ قد جاءت للتشبيه وتشديد التحذير من التأثر وشدة الشغف بالأزواج والأولاد إلى المدى الذي يشغل المسلم عن واجبه نحو الله ودينه وخلقه أو يجعله يرتكب إثما ومعصية.
فلا يصح أخذها على غير هذا المدى.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ البزار عن أبي سعيد قال «قال رسول الله ﷺ الولد ثمرة القلوب. وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» حيث ينطوي في الحديث تقرير لواقع الأمر والتطابق مع الآيات من حيث كون الأولاد قرة عين ولكنهم يكونون أحيانا من أسباب جبن الآباء وبخلهم ودواعي الحزن لهم. وقد أورد المفسر حديثا آخر رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال «قال رسول الله ﷺ ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت الجنة.
ولكن الذي لعلّه عدوّ لك ولدك الذي خرج من صلبك ثم أعدى عدوّ لك مالك»
والحديث مما تضمنت الآيات تقريره وهدفت إلى التحذير منه كما هو المتبادر.
ولقد قال بعض المفسرين: إن في الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تخفيفا عن المسلمين ونسخا لآية آل عمران هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [١٠٢].
ورووا عن سعيد بن جبير ومقاتل والسدي أن المسلمين لما نزلت آية آل عمران اشتدوا في العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم- يعني من كثرة الصلاة- فأنزل الله هذه الآية تخفيفا عنهم «١». وقال بعضهم إنها غير ناسخة وإن حكم الآيتين محكم في الحالات المختلفة ولا تنافي بينها «٢». ونحن نرى هذا هو الأوجه إن شاء الله. لأن تقوى الله حقّ تقاته لا تتضمن تحميلا للمسلم ما ليس له به

(١) انظر البغوي والخازن وابن كثير والرواية وردت في ابن كثير.
(٢) انظر الطبرسي.

صفحة رقم 553

طاقة فيما نرى ولا سيما أن في الآيات المكية والمدنية التي نزلت قبل نزول آية آل عمران تقريرا ربانيا بأن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وإنما تعني الإخلاص التام لله ومراقبته مراقبة تامة. ولقد نزلت آية آل عمران في موقف خطير وفي سياق تضمن تحذيرا للمسلمين إزاء ذلك الموقف على ما شرحناه في سياق تفسيرها فلا محلّ لربط هذه الآية بتلك.
على أنه يتبادر لنا أن الأوجه المتسق مع روح الآيات وهدفها ومقامها هو صرف الجملة إلى قصد الحثّ على الاجتهاد في تقوى الله جهد الطاقة وعدم التهاون في ذلك. وهذا لا يتنافى مع القول الذي رجحناه سابقا والله أعلم.
وتعبير وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) يتكرر هنا للمرة الثانية حيث ينطوي في ذلك توكيد على سوء خلق الشحّ وعظم فلاح من يكون بريئا منه وحثّ على نبذه وقد أوردنا ما روي من الأحاديث النبوية في ذلك في المناسبة الأولى التي ورد فيها هذا التعبير وهو آية سورة الحشر [٩].

صفحة رقم 554

سورة الصّف
في السورة كسابقتها تقرير بتسبيح كل ما في السموات والأرض لله. وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد ﷺ بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه. وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحثّ على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله.
وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد «١».
وقد قال الزمخشري إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا «٢».
وهذا عجيب، وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النصّ. فحثّ المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا. لأن القتال إنما فرض وحرّض عليه بعد الهجرة. وكان النبي ﷺ لا يأذن

(١) ابن كثير.
(٢) الطبرسي والبغوي.

صفحة رقم 555
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية