آيات من القرآن الكريم

۞ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

تخصيصه أجري على خصوصه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ).
يحتمل أن يكون معناه، أي: لا يفقهون؛ لأنه طبع على قلوبهم، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات، وذلك بأنهم كانوا يظنون أنهم كانوا على الحق، فأخبر أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم حتى ظنوا أنهم على الحق، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية، وإلا لو فقهوا أن لله دارا أخرى يجازون فيه بأعمالهم، لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارهم، واللَّه المستعان.
ويحتمل: أي: لا يفقهون عن اللَّه تعالى، وأن تعبدهم وأمرهم بطاعة رسوله واتباعه ويحتمل أي: لا يفقهون أنهم يتعبدون، وأن لله دارا أخرى يسألهم عما فعلوا، ويجازيهم على جميع ذلك.
ثم قال هاهنا: (لَا يَفْقَهُونَ)، ولم يقل: (لا يعلمون)؛ لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء، فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا. وقال ابن الراوندي: الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره.
وعندنا أن الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره كان ذلك نظيرا له أو لم يكن؛ لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع، ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة، وليسا بنظيرين.
ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه وإن كانا جميعا في الحقيقة يرجعان إلى معنى واحد؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له، وظهوره بنفسه، والفقه يعرف بغيره استدلالا؛ ولذلك جاز أن يقال: اللَّه تعالى عالم؛ لتجلي الأشياء له، ولم يجز أن يقال: إن الله فقيه؛ لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال، واللَّه الموفق.
والحكمة: وضع الأشياء موضعها، والإيقان: إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب؛ ولذلك جاز أن يقال: إن اللَّه تعالى حكيم، ولم يجز أن يقال: إنه موقن، واللَّه المستعان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤).
في هذا بيان أن اللَّه تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان، وأنه قد آتاهم العلم؛ لأن حسن البيان لا يكاد يكون إلا عن علم؛ فكأن اللَّه تعالى ذكر نعمه التي آتاهم؛ فإنهم لم يشكروا نعمه وأساءوا صحبتها، فكأنه يقول: كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك، وإنهم لم يحسنوا صحبة نعمة رب العالمين؟! فيكون له بعض التسلي؛ لما اهتم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سوء صنيعهم به، وإعراضهم عن اتباعه وطاعته.

صفحة رقم 21

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).
يعني: وإن يقولوا تحسب قولهم حقًّا؛ فتسمع لقولهم لتقبله.
ويحتمل: تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته - عليه السلام - في كل من كلمه أنه لا يغير عليه ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه، ثم قبله إن كان مما يجب قبوله، وغيره على صاحبه ورده إن كان مستحقًّا للتغيير عليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).
يقول: إنهم فيما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك، وفيما يلقى إليهم من الحق والدِّين والحكمة كأنهم خشب مسندة لا ينجع فيهم الحق ولا يقبلونه كالخشب المسندة.
ويحتمل هذا تمثيلا بالخشب؛ من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها فيوضع فيها شيء، فكذلك المنافقون كأنهم لا أجواف لهم يوضع فيها الحكمة والدِّين والحق، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون معناه: كأنهم خشب مسندة؛ من حيث إن الخشب المسندة، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب، فكذلك المنافقون كأنهم بكم عمي في ناحية الحق وقبوله، واللَّه المستعان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)، يحتمل وجهين:
أحدهما: يحسبون كل صيحة سمعوها كلمة تهتك عليهم سرهم وتفضحهم؛ ألا ترى إلى قوله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)، فأخبر أنهم كانوا يحسبون فضيحتهم وهتك أستارهم والاطلاع على ما في قلوبهم، فكذلك يحسبون أن من كلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فإنما تكلم بما يهتك عليهم أستارهم ويفضحهم، واللَّه المستعان.
والثاني: يحتمل أن يكون ذلك في الحرب: أنهم كلما سمعوا صيحة في الحرب خافوا أن يكون فيه هلاكهم، وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة، وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حربًا للفريق الآخر، وإذا وافقوا الآخر صاروا حربًا لهَؤُلَاءِ، فأخبر الله تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة سمعوها أن يكون ذلك سببًا لهلاكهم.
ويحتمل أن يكون اللَّه تعالى عاقبهم بالخوف الدائم؛ لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكلٍّ؛ رجاء أمنهم، وكان جميع مقاصد في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان، وذلك غير مأذون

صفحة رقم 22
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية