
لا يوجد شراء من غير بيع، فإذا منع البيع فقد منع الشراء، قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي ما هو خير لكم وأصلح.
١٠ - قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: إذا صليتم الفريضة (١).
وقال مقاتل: فرغتم من الصلاة يوم الجمعة فانتشروا في الأرض هذا أمر إباحته للانتشار بعد الأمر بالاجتماع للصلاة بالسعي إليها (٢).
قال ابن عباس: فإن شئت فأخرج وان شئت فصل العصر، وإن شئت فاقعد (٣) يعني إن هذا ليس بأمر حتم، كذلك قوله: ﴿وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ﴾ إباحة لطلب الرزق بالتجارة بعد المنع بقوله: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
قال مقاتل: أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة فمن شاء خرج إلى تجارته ومن شاء لم يفعل (٤).
وقال مجاهد: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل (٥).
وقال الضحاك: هو إذن من الله إذا فرع إن شاء خرج وإن شاء قعد في المسجد (٦).
والأحسن في الابتغاء من فضل الله أنه طلب الرزق وذكر أوجه من طلب الولد، وطلب العلم، وعيادة المريض وحضور الجنازة، والظاهر هو
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ.
(٣) انظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٥، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٩.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥/ أ، و"التفسير الكبير" ٣٠/ ٩.
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" ٢/ ١٥٧ عن مجاهد وعطاء. وانظر: "الدر المنثور" ٦/ ٢٢.
(٦) انظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٦، و"الدر" ٦/ ٢٢.

الأول، لأن إباحة ما منع هو البيع (١).
وروى أن عراك بن مالك (٢) كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال: "اللهم إني (٣) أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين" (٤).
وأجمع المفسرون على أن الأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المائدة: ٢] وليس على كل من حل من إحرامه أن يصطاد، قال أبو إسحاق: هذا مثل قولك في الكلام: إذا حضرتني فلا تنطق (٥)، وإذا غبت عني فتكلم بما شئت، إنما معناه الإباحة (٦).
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ قال مقاتل: باللسان (٧)، وقال سعيد: واذكروا الله كثيرًا بالطاعة (٨).
وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين كثيرًا حتى يذكره قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا (٩).
(٢) هو عِرَاكُ بن مالك الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل. مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة. انظر: "العبر" ١/ ٩٢، و"التقريب" ٢/ ١٧.
(٣) (إني) ساقطة من (ك).
(٤) أخرج ابن أبي حاتم عنه، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٧.
(٥) في (ك): (تنطلق).
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٢.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ، و"التفسير الكبير" ٣/ ٩.
(٨) انظر: "التفسير الكبير" ٣/ ٩.
(٩) انظر: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣٦٧.

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً﴾ الآية. قال مقاتل: إن دحية الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان يحمل معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق، ووافق قدومه يوم الجمعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لولا هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة". وأنزل الله هذه الآية (١)، وهذا قول جماعة في سبب نزول هذه الآية. قال جابر بن عبد الله: وكان في الاثنى عشر رجلاً الذين بقوا معه أبو بكر وعمر (٢).
وقال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع، وغلا سعرهم، فقدمت عير ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها وخرجوا إليها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قائم كما هو فقال: "لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب عليهم الوادي نارًا" (٣).
(٢) أخرجه مسلم في رواية هشيم. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤، والإمام أحمد في "المسند"، وروى العقيلي: أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وأناسًا من الأنصار، وعنده بسند متصل أن الاثني عشر هم العشرة المبشرة، وبلال، وابن مسعود. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤.
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي ص ٤٩٤، ونسبه للمفسرين، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٩٢، عن الحسن، و"جامع البيان" ٢٨/ ٦٧، عن الحسن. وقوله: (لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب علبهم الوادي نارًا) قال ابن حجر -رحمه الله- (فائدة: ذكر الحميد في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر هذا الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (...)، ولم أر هذه الزيادة في الأطراف لابن مسعود، ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة، وإنما وقعت في مرسلي الحسن وقتادة) "فتح البارى" ٢/ ٤٢٤ - ٤٢٥.

وقال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات لعير تقدم (١).
قوله تعالى: ﴿أَوْ لَهْوًا﴾ المفسرون على أنه الطبل الذي كان يضرب لقدوم الغير. وقال جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة قائمًا على المنبر، وكانوا إذا نكحوا الجواري يضربون المزامير والكبر (٢)، فتركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على المنبر (٣).
قوله تعالى: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ أي تفرقوا عنك، كقوله: ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] قال المبرد: انفضوا إليها، الضمير للتجارة (٤).
وقال الزجاج، والمبرد: ولو كان انفضوا إليه وإليهما جاز كما جاز انفضوا إليها (٥)، لأن الشيئين إذا عطف أحدهما على الآخر ومعناهما واحد فاردد الخبر إليهما أو إلى أحدهما، أيهما شئت فإن الآخر داخل معه (٦).
(٢) الكّبَر: طبل له وجه واحد. "تهذيب اللغة" ١٠/ ٢١٣، و"اللسان" ٣/ ٢١٢ (كبر).
(٣) وقع عند الشافعي من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه مرسلاً، ووصله أبو عوانه في "صحيحه"، والطبري. وانظر: "جامع البيان" ٢٨/ ٦٨، و"إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣.. قلت: ما صح عن جابر رضي الله عنه في سبب النزول وما ذكره المفسرون في المراد باللهو لا تعارض بينهما إذ تفسير جابر للمراد باللهو بأنه ضرب الطبل في النكاح لم يصرح فيه على ما رواه ابن جرير وغيره بأن ذلك كان في يوم الجمعة فلعله كان أثناء خطبته -صلى الله عليه وسلم- في غير الجمعة فحملت الآية على العموم، وربما تكررت الحادثة كما ذكر قتادة، والله أعلم. "فتح الباري" ٢/ ٤٢٤، وقال: ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معًا وأكثر ٢/ ٤٢٤.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٣٠/ ١١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٧٢.
(٦) انظر: "الكشاف" ٤/ ٩٩.

وهذا من كلام العرب المستقيم أن يذكروا الشيئين اللذين يرجعان إلى معنى مما يطلب فيهما فيردوا الخبر إلى أحدهما استغناء واختصارًا، كقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ [البقرة: ٤٥]، ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ [التوبة: ٣٤]. ونحو هذا قال الفراء، وزاد فقال: وأجود من (١) ذلك أن تجعل الراجع من الذكر للآخر من الاسمين وإنما اختير هاهنا الرجوع إلى التجارة لأنها كانت أهم إليهم، وهم بها أسر منهم بضرب الطبل، لأن الطبل إنما دل عليها، فالمعنى كله لها (٢).
قوله تعالى: ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ أجمعوا على أن هذا القيام كان في الخطبة، وهذا دليل على أن من (٣) أجاز القعود في الخطبة للجمعة.
قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب إلا وهو قائم فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه (٤)، وسئل عبد الله: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ فقرأ (وتركوك قائمًا) (٥)، ولذلك سئل ابن سيرين، وعلقمة، فقرأ هذه الآية (٦).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ١٥٧.
(٣) لعل الصواب: (وهذا دليل على من) بدون (أن).
(٤) أخرجه مسلم في كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، وما فيهما من الجلسة، وأبو داود في باب: الخطبة قائمًا، من كتاب: الصلاة، وأحمد في "المسند" ٥/ ٨٧، والنسائي في باب: السكوت في القعدة بين الخطبتين، كتاب: الجمعة.
(٥) أخرجه ابن مردويه، وابن أبي شيبة، انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، وابن ماجه، والطبراني. "الدر" ٦/ ٢٢١، وذكره الثعلبي في "تفسيره" ١٣/ ١٢٧ ب.
(٦) انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة، عن ابن سيرين. "الدر" ٦/ ٢٢٢، وذكره البغوي فقال: (وقال علقمة: سئل عبد الله بن عمر..)، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٤٦.

وروي أن كعب بن عجرة دخل المسجد وعبد الرحمن (١) يخطب قاعدًا فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا، وقال الله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا﴾ وتلا الآية (٢).
وقال الشعبي: أول من خطب قاعدًا معاوية (٣).
قوله: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ قال مقاتل: يعني من الطبل والصفق ﴿وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾ التي جاء بها دحية (٤).
قوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ المخلوق مرزوق فإذا غضب قطع رزقه، والله عز وجل يسخط ولا يقطع وهو أحكم الحاكمين.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة ٢/ ٥٩٠، وابن أبي شيبة ٢/ ١١٢.
(٣) رواه ابن أبي شيبة ٢/ ١١٢ من طريق الشعبي، أن معاوية إنما خطب قاعدًا لما كثر شحم بطنه ولحمه. وأخرج عن طاووس.. وأول من جلس على المنبر معاوية. وروى سعيد بن منصور عن الحسن:.. وأول من خطب جالسًا معاوية.
وانظر: "فتح الباري" ٢/ ٤٠١، و"الدر" ٦/ ٢٢٢
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب.