
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها، وأنه متى طلب فيه شيء من الدنيا محقت بركته مع ما اكتسب من الإثم، بين وقت المعاش فقال مبيحاً لهم ما كان حظر عليهم، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد: ﴿فإذا قضيت الصلاة﴾ أي وقع الفراغ منها على أي وجه كان ﴿فانتشروا﴾ أي فدبوا وتفرقوا مجتهدين في الأرض في ذلك ﴿في الأرض﴾ جميعها إن شئتم، لا حجر عليكم ولا حرج رخصة من الله لكم ﴿وابتغوا﴾ أي وتعمدوا وكلفوا أنفسكم مجتهدين بالسعي في طلب المعاش ﴿من فضل الله﴾ أي زفلة الملك الأعلى الذي له كل كمال ولا يجب لأحد عليه شيء بالبيع والشراء وغيرهما من مصالح الدين والدنيا التي كنتم نهيتم عنها.
ولما كان السعي في طلب الرزق ملهياً عن الذكر، بين أنه أعظم السعي في المعاش وأن من غفل عنه لم ينجح له مقصد وإن تحايل له بكل الحيل وغير ذلك فقال: ﴿واذكروا الله﴾ أي الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره فإنه لا رخصة في ترك ذكره أصلاً. ولما كان العبد مطلوباً بالعبادة في كل حال فإنه مجبول على النسيان. فمهما فتر عن نفسه

استولت عليها الغفلة فمرنت على البطالة فهلكت قال: ﴿كثيراً﴾ أي بحيث لا تغفلوا عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع وعند الإنزال، واستثنى من اللساني وقت التلبس بالقذر كالكون في قضاء الحاجة.
ولما كان مراد الإنسان من جميع تصرفاته الفوز بمراداته قال معللاً لهذا الأمر: ﴿لعلكم تفلحون *﴾ أي لتكونوا عند الناظر لكم والمطلع عليكم من أمثالكم ممن يجهل العواقب على رجاء من أن تظفروا بجميع مطلوباتكم، فإن الأمور كلها بيد من تكثرون ذكره، وهو عالم بمن يستحق الفلاح فيسعفه به وبمن عمل رياء ونحوه فيخيبه، فإذا امتثلتم أمره كان جديراً بتنويلكم ما تريدون، وإن نسيتموه كنتم جديرين بأن يكلكم إلى أنفسكم فتهلكوا.
ولما كان التقدير مما ينطق به نص الخطاب: هذه أوامرنا الشريفة وتقديساتنا العظيمة وتفضلاتنا الكريمة العميمة، فما لهم إذا نودي لها توانى بعضهم في الإقبال إليها، وكان قلبه متوجهاً نحو البيع ونحوه من الأمور الدنيوية عاكفاً عليها ساعياً بجهده إليها فخالف قوله أنه أسلم لرب العالمين فعله هذا، عطف عليه قوله: ﴿وإذا رأوا﴾ أي بعد

الوصول إلى موطنها المريح ومحلها الفسيح الشرح المليح، والاشتغال بشأنها العالي ﴿تجارة﴾ أي حمولاً هي موضع للتجارة. ولما ذكر ما من شأنه إقامة المعاش أتبعه ما هو أنزل منه وهو ما أقل شؤونه البطالة التي لا يجنح إليها ذو قدر ولا يلقي لها باله فقال: ﴿أو لهواً﴾ أي ما يلهي عن كل نافع.
ولما كان مطلق الانفضاض قبيحاً لأنه لا يكون إلا تقرباً على حال سيئ، من الفض وهو الكسر بالتفرقة، والفضاض ما تفرق من الفم والطلع: كسرهما، فكيف إذا كانت علته قبيحة، قال تعالى معبراً به: ﴿انفضوا﴾ أي نفروا متفرقين من العجلة.
ولما كان سبب نزول الآية أنه كان أصاب الناس جوع وجهد، فقد دحية الكلبي رحمه الله تعالى بعير تحمل الميرة، وكان في عرفهم أن يدخلوا في مثل ذلك بالطبل والمعازف والصياح، وكان قصد بعض المنفضين العير، وبعضهم ما قارنها من اللهو، ولكن قاصد التجارة هو الكثر، أنث الضمير فقال معلماً بالاهتمام بها لأن اللهو مسبب عنها: ﴿إليها﴾ وللدلالة على أنه إذا ذم قاصدها مع ما فيها من النفع والإنسان لا بد له من إصلاح معاشه لقيام حاله

ولا سيما والحاجة إذ ذاك شديدة، كان الذم لقصد اللهو نم باب الأولى.
ولما كان ذلك حال الخطبة التي هي جديرة بشدة الإصغاء إليها والاتعاظ بها في صرف النفس عن الدنيا والإقبال على الآخرة قال: ﴿وتركوك﴾ أي تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر رضي الله عنه: أنا أحدهم، ودل على مشروعية القيام بقوله: ﴿قائماً﴾ فالواجب خطبتان: قائماً يفصل بينهما بجلوس، والواجب فيهما أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوصي بتقوى الله تعالى، هذه الثلاثة واجبة في الخطبتين معاً، ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن وفي الثانية أن يدعو للمؤمنين، فلو ترك واحدة من هذه الخمس لم تصح الخطبة عند الشافعي رضي الله عنه، ولجواز الجمعة خمس شرائط: الوقت وهو وقت الظهر، والعدد وهو الأربعون، والإمام والخطبة ودار الإقامة، فإن فقد شرط وجبت الظهر، ولا تبتدأ الخطبة إلا بعد تمام، وبقاء هذا العدد شرط إلى آخر الصلاة، فإن انفض بعضهم ثم عاد ولم يفته شيء من الأركان صحت.
ولما كان هذا فعل من سفلت همته عن سماع كلام الحق من الحق، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعظهم إلهاباً لهم إلى الرجوع إلى تأهلهم

للخطاب ولو بالعتاب قال: ﴿قل﴾ أي لهم ترغيباً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من طلب الخير من معدنه: ﴿ما عند الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال من الأعراض العاجلة في الدنيا من واردات القلوب وبوادر الحقيقة، الحاصل من سماع الخطبة الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر، المفيد لتزكية الباطن وتقويم الظاهر والبركة في جميع الأحوال والآجلة في الآخرة مما لا يدخل تحت الوصف ﴿خير﴾ ولما قدم التجارة أولاً اهتماماً بها، قدم هنا ما كانت سبباً له ليصير كل منهما مقصوداً بالنهي فقال: ﴿من اللهو﴾ ولما بدأ به لإقبال الإغلب في حال الرفاهية عليه قال معيداً الجار للتأكيد: ﴿ومن التجارة﴾ أي وإن عظمت.
ولما كان من عنده الشيء قد لا يعطيه بسهولة وإذا أعطاه لا يعطيه إلا من يحبه قال: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام وحده ﴿خير الرازقين *﴾ لأنه يرزق متاع الدنيا لسفوله ولكونه زاداً إلى الآخرة البر والفاجر والمطيع والعاصي، ويعطي من يريد ما لا يحصيه العد ولا يحصره الحد، وأما المعارف الإلهية والأعمال الدينية الدال عليها رونق الصدق وصفاء الإخلاص وجلالة المتابعة فلا يؤتيها إلا الأبرار وإن كانوا أضعف الناس وأبعدهم من ذلك ولا يفوت أحداً، أقبل

على ما شرعه شيئاً كان ينفعه فلا تظنوا أن الغنى في البيع والتجارة إنما هو في متابعة أمر من أحل البيع وأمر به وشرع ما هو خير منه تزكية وبركة ونماء في الظاهر والباطن، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قال يوم الجمعة» اللهم أغنني بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك سبعين مرة لم تمر به جمعتان حتى يغنيه الله تعالى «وأصل الحديث أخرجه أحمد والترمذي - وقال حسن - عن علي رضي الله عنه، وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، فأقبلوا على متابعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألزموا هدية واستمسكوا بغرزه تنالوا خيري الدارين بسهولة، فقد رجع آخر السورة كما ترى على أولها بما هو من شأن الملك من الرزق وإنالة الأرباح والفوائد ولا سيما إذا كان قدوساً وتبكيت من أعرض عن خطبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللازم منه استمرار الإقبال عليه ودوام الإقامة بين يديه، لأنه لا يدعوهم إلا لما يحييهم من الصلاة والوعظ الذي هو عين تنزيه الله وتسبيحه ﴿يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ [آل عمران: ١٦٤] يزكيهم ربهم ويرزقهم من فضله إنه كريم وهاب - والله أعلم بالصواب.
صفحة رقم 72
سورة المنافقون
مقصودها كمال التحذير مما يثلم الإيمان من الأعمال الباطنة، والترهيب مما يقدح في الإسلام من الأحوال الظاهرة، بمخالفة الفعل للقول فإنه نفاق في الجملة فيوشك يجر إلى كمال النفاق فيخرج من الدين ويدخل الهاوية، ليكون هذا التحذير سببا في صدق الأقوال ثم صدق الأعمال ثم صدق الأخلاق ثم صدق الأحوال ثم قف الأنفاس، فصدق القول أن لا يقول القائل إلا عن برهان، وصدق العمل أن لا يكطون للبدعة عليه سلطان، وصدق الأخلاق أن لا يلاحظ ما يبدو منه من الإحسان بعد المبالغة فيه بعين النقصان، وصدق الأحوال أن يكون على كشف وبيان وصدق الأنفاس أن لا يتنفس إلا عن وجود كالعيان، وتسميتها بالمنافقين واضحة في ذلك) بسم الله (الذي له الإحاطة العظمى علما وقدرة فمن زاغ أراده) الرحمن (الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده وفضح من

شاء وإن دقق مكره وأخفاه) الرحيم (الذي وفق أهل وده بإتمام نعمته لما يحبه ويرضاه.
صفحة رقم 74