
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قولُ من قال: عنى بقوله:"فإن يكفر بها هؤلاء"، كفار قريش ="فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، (١) أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
* * *
فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا، (٢) وكذبوا وجحدوا حقيقتها، فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها، ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى قوله:"فقد وكّلنا بها قومًا"، رزقناها قومًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"أولئك"، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين، هم الذين هداهم الله لدينه الحق، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه، فوفقهم جل ثناؤه لذلك ="فبهداهم اقتده"،
(٢) في المطبوعة: "فإن يكفر قومك من قريش"، وفي المخطوطة: "فإن يكفر بها قومك" والكلام لا يستقيم إلا بحذف"بها" ولكن الجملة لا تستقيم أيضًا في العطوف المتتابعة حتى تكون"فإن كفر قومك"، فعلا ماضيًا كالذي عطف عليه.

يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم ="اقتده"، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه، فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.
* * *
وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله:"فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك.
* * *
وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة = أو: أنهم هم الملائكة = فإنهم جعلوا قوله:"فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين"، اعتراضًا بين الكلامين، ثم ردّوا قوله:" أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، على قوله:"أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة".
* ذكر من قال ذلك:
١٣٥٣١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ووهبنا له إسحاق ويعقوب" إلى قوله:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، يا محمد.
١٣٥٣٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أولئك الذين هدى الله"، يا محمد،"فبهداهم اقتده"، ولا تقتد بهؤلاء.
١٣٥٣٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي ﷺ فقال:"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده".
١٣٥٣٤ - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء

الذين سماهم في هذه الآية:"فبهداهم اقتده".
* * *
ومعنى:"الاقتداء" في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال:"فلان يقدو فلانًا"، إذا نحا نحوه، واتبع أثره،"قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة". (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد:"لا أسألكم"، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به، عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم، (٢) وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم = وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد، لتذكروا وتنزجروا. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير"الأجر فيما سلف من فهارس اللغة (أجر).
(٣) انظر تفسير"ذكرى" فيما سلف ص: ٤٣٩.