
أربعة عند حصول الشدائد: وهي الدعاء، والتضرع، والإخلاص بالقلب، والتزام الاشتغال بالشكر، ثم يرتد على عقبيه، ويعمل بنقيض هذه الأمور بعد النجاة وإحراز السلامة من الله تعالى وحده الذي يهيئ الأسباب للإنجاء من المخاوف، أو يغمر عباده بواسع الرحمة والفضل، وبدقائق اللطف والإلهام.
القدرة الإلهية على تعذيب العصاة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
الإعراب:
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً إما منصوب على المصدر أو على الحال.
البلاغة:
فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
مِنْ فَوْقِكُمْ أي من السماء كالحجارة والصيحة. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم، من اللّبس، والمراد: يخلط عليكم أمركم خلط اضطراب واختلاف. وفيه حذف تقديره: يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً جمع شيعة، أي يجعلكم فرقا مختلفة الأهواء. وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال. نُصَرِّفُ الْآياتِ نبين لهم الدلالات على قدرتنا، ونحو لها من نوع من أنواع الكلام إلى آخر، ترسيخا للمعنى وتأكيدا له. لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون أن ما هم عليه باطل، والفقه: فهم الشيء بدليله وعلته، فهما يؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ والعمل الأفضل.

وَكَذَّبَ بِهِ بالقرآن. وَهُوَ الْحَقُّ الصدق. بِوَكِيلٍ هو الذي توكل أو تفوض إليه الأمور، والمراد: لست مفوضا في شأنكم، فأجازيكم، إنما أنا منذر، وأمركم إلى الله. نَبَإٍ خبر. مُسْتَقَرٌّ وقت يقع فيه ويستقر، ومنه عذابكم. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد لهم.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً.. الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف» قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدا: أن يقتل بعضنا بعضا، ونحن مسلمون، فنزلت: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ، وَهُوَ الْحَقُّ، قُلْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وروى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ إلخ، فقال: «أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد».
المناسبة:
بعد أن بيّن سبحانه أنه القادر على إنجاء المشركين وغيرهم من المخاوف والأهوال، بيّن كونه تعالى قادرا على إيصال العذاب إليهم من طرق مختلفة، ليعتبروا ويتعظوا، وهو نوع آخر من دلائل التوحيد، ممزوج بنوع من التخويف.
التفسير والبيان:
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين: الله هو القادر على إنزال العذاب عليكم بألوان مختلفة، تارة من فوقكم كالرجم بالحجارة كما حدث لقوم لوط

وأصحاب الفيل، والصيحة وهي الصوت الشديد المهلك، كما حدث لثمود وهم أصحاب الحجر (واد بين المدينة والشام)، والطوفان كما حدث لقوم نوح، وتارة من تحتكم كالزلزال والبركان والخسف المعهود فيما سبق كما حدث لقارون، وتارة أن يخلط عليكم أمركم ويجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم، فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. وعن ابن عباس: أن المراد بمن فوقكم أي من أمرائكم، ومن تحت أرجلكم، أي عبيدكم وسفلتكم.
قال الطبري: وأولى التأويلين «١» في ذلك بالصواب عندي قول من قال:
عنى بالعذاب من فوقهم: الرجم، أو الطوفان، وما أشبه ذلك، مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه، وذلك وأن المعروف في كلام العرب من معنى: فوق وتحت الأرجل هو ذلك دون غيره، وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك (التأويل الثاني) وجه صحيح، غير أن الكلام إذا تنوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها «٢».
وإني أؤيد الطبري لأن ظاهر اللفظ يقضي بحمله على المعروف المشهور، وإن كان لا مانع من الأخذ بعموم اللفظ، مما يحدث في المستقبل لأن القرآن معجزة الدهر، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. وقد شهد العصر الحديث ويلات رهيبة من مشاهد القتال، من الجو والبر والبحر، مما يشيب منه الإنسان.
(٢) تفسير الطبري: ٧/ ١٤٢

روى البخاري والنسائي عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية:
قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أعوذ بوجهك». أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: «أعوذ بوجهك». أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه أهون- أو: أيسر».
وإنما كان التفريق والاقتتال أهون لأن ما قبله أشد وهو عذاب الاستئصال.
وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي عز وجل أربعا، فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة، سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها، وسألت الله أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها، وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها، وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فمنعنيها».
ويؤيده- مع بعض الفارق-
ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت ربي عزّ وجلّ أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع الله عنهم اثنتين، وأبي علي أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع اثنتين: القتل والهرج»
فجعل الأمرين الأخيرين اثنين، وفي رواية أحمد: واحدا.
وروى مسلم ما يؤيد رواية أحمد، وهي رواية أخرى لأحمد من حديث

ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زوي «١» لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة «٢»، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم «٣»، وإن ربي قال:
يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا».
وقد تحقق خبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في اتساع أرجاء البلاد الإسلامية إلى المشارق والمغارب، وفي وقوع بأسهم بينهم بالتفرق والاقتتال. أما تسلط عدوهم عليهم فمرهون بوحدتهم واجتماع كلمتهم، وما حدث من زوال ملكهم عن بعض البلاد كالأندلس وفلسطين فكان بسبب تفرقهم وتشتت وحدتهم وتمزق صفوفهم وتفرق جمعهم، بدليل
ما روى أبو داود والبيهقي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وسينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن. قال قائل:
يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت».
ثم أمر الله تعالى بالنظر في الدلائل والبينات، فقال: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي انظر أيها الرسول كيف نبين ونوضح الدلائل بوجوه مختلفة، إما بطريقة الحس، وإما بطريقة العقل، وإما بالإخبار بالغيب، لعلهم يفهمون
(٢) السنة العامة: البلاء العام كالجماعة والقحط والغرق والصيحة والرجفة والريح العاتية. [.....]
(٣) البيضة: العزة ومستقر الملك أو كيان البلاد واستقلالها.

ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه، فتحدث عندهم العبرة والعظة وتصحيح أحوالهم.
ولكن قوم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهم قريش كذبوا بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان أو بالعذاب الذي هدوا به، والحال أنه الحق الصدق أي الذي ليس وراءه حق، فالقرآن حق ثابت لا شك فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والعذاب لا بد أن ينزل بهم، فكل منهما يثبته الحس والعقل والوجدان.
ثم لا سبيل إلى إجبارهم على الإيمان، فقل لهم أيها الرسول: إنني لست عليكم بحفيظ ولا رقيب وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام ٦/ ١٠٤] أي أحفظ عليكم أعمالكم، ولست بموكل بكم، كقوله: وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف ١٨/ ٢٩] وقوله: فَذَكِّرْ، إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق ٥٠/ ٤٥] أي إنما علي البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة، ومن خالفني شقي في الدنيا والآخرة.
وأخيرا جاء التهديد والوعيد على التكذيب بالقرآن أو بالعذاب، فقال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ.. أي لكل خبر يخبر به وقت استقرار ووقوع وحصول لا بد منه ولو بعد حين، قال ابن عباس وغيره: «لكل نبأ حقيقة» أي لكل خبر وقوع ولو بعد زمن، كقوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص ٣٨/ ٨٨] وقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨]. هذا تهديد ووعيد أكيد، أتبعه بتهديد آخر فقال:
وسوف تعلمون صدق الخبر وحقيقة الوعد والوعيد، وعد رسوله بالنصر

عليهم، ووعيده لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
قدرة الله تعالى شاملة لجانبي الرحمة والفضل، والعذاب والعقاب، فهو قادر على إمداد خلقه بمختلف أنواع السعة والرزق والسلامة والنجاة، كما أبان في الآيات السابقة، وهو قادر أيضا على إنزال مختلف أنواع العذاب كما ذكر في هذه الآيات، ومثل العذاب من فوق الرجم بالحجارة والطوفان والصيحة والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، ومثل العذاب من تحت الزلزال والبركان، والخسف والرجفة كما فعل بقارون وأصحاب مدين، ومثل العذاب الشديد الدائم: أن يخلط عليكم الأمر، فيفرق صفوفكم، ويجعلكم مختلفي الأهواء، ويفرق بين الأمراء على طلب الدنيا، وإيقاع الحرب والقتل في الفتنة.
والآية عامة في المسلمين والكفار، وقد تحقق كل ذلك في الوجود، فاستولى العدو على ديارنا وأنفسنا وأموالنا، واستولت الفتنة علينا بقتل بعضنا بعضا، واستباحة بعضنا أموال بعض. وما أسوأ حال العرب والمسلمين منذ تخلّوا عن تعاليم دينهم، وأصبحوا تبعا للأعداء، وجسّدوا فيما بينهم الفرقة والخلاف.
وأما مصير الذين كذبوا بالقرآن، وهو القصص الحق، فليس أمرهم منوطا بنبيّ الله، فما هو إلا منذر وقد بلّغ ما أمره به ربه، وإنما أمرهم راجع إلى الله، ولكل إنذار وقت، ولكل خبر حقيقة، ولكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر. وهذا شامل للعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وهذا وعيد من الله تعالى للكفار، لأنهم كانوا لا يقرّون بالبعث، ووعيد لهم في الدنيا، كما حدث لهم في بدر وغيرها من المعارك الحربية التي استأصلت الكفر والشرك من الحجاز.