
٦٢ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يعني: العباد يردون بالموت إلى الله ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾. قد مضى الكلام في معنى المولى عند قوله: ﴿أَنتَ مَوْلَانَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ أي: القضاء فيهم، ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ يقول: إذا حاسب فحسابه سريع، ومضى الكلام في معنى سرعة حساب الله تعالى عند قوله: ﴿والله سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ [البقرة: ٢٠٢] في سورة البقرة.
٦٣ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ الآية. قرئ (١) قوله: ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾ بالتشديد، وكذلك قوله: ﴿قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ﴾ [(والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فإن شئت نقلت بالهمز، وإن شئت نقلت بتضعيف العين نحو: أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وما أشبه ذلك، وفي التنزيل: ﴿فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ [العنكبوت: ٢٤] ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الأعراف: ٦٤] وفيه (٢): ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [فصلت: ١٨]، فإذا جاء التنزيل باللغتين جميعًا تبيّنت استواء القراءتين في الحسن) (٣).
انظر: "السبعة" ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٨.
(٢) لفظ: (فيه) ساقط من (ش).
(٣) ما تقدم هو قول أبي علي في "الحجة" ٣/ ٣٢٢ - ٣٢٣، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١، و"إعراب القراءات السبع وعللها" ١/ ١٥٩ - ١٦٠، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٥.

غير أن الاختيار التشديد؛ لأن ذلك كان لهم من الله غير مرةٍ (١).
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ سؤال توبيخ لهم وتقرير أن الله يفعل ذلك (٢). وقوله تعالى: ﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال ابن عباس: (من أهوالهما وكرباتهما قال: وكانت قريش تسافر في البر والبحر فإذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم) (٣). قال أبو إسحاق (٤): (﴿ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ شدائد البر والبحر، والعرب تعبر عن الشدة بالظلمة، يقولون لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل، وأنشد (٥):
بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلمُونَ بَلاَءَنا | إذاً كَانَ يَوْمَ ذَا كَواكِبَ مظلم) |
(٢) انظر: "الفريد" ٢/ ١٦٤، "الدر المصون" ٤/ ٦٦٩.
(٣) ذكره الواحدي في "الوسيط" ١/ ٥٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٥٨، وأخرج الطبري في "تفسيره" ٧/ ٢١٩، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٠٨ بسند ضعيف من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: (يقول: إذا أضل الرجل الطريق دعا الله: ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ٢٥٩.
(٥) البيت لعمرو بن شأس الأسدي شاعر مخضرم، في "الكتاب" ١/ ٤٧، وبلا نسبة في "معاني النحاس" ٢/ ٤٤٠، و"الكشاف" ١/ ٤٠٤، والقرطبي ٧/ ٨، و"البحر" ٤/ ١٢٢، ورواية الأكثر: أَشْنَعَا: مكان مظلم، ويروى: أشهب، وانظر: "المعاني الكبير" ٢/ ٩٧٣.

وقال غيره: (أراد ظلمة الليل وظلمة الغيم في البر والبحر، فجمع لفظه ليدل على معنى الجميع) (١).
وقوله تعالى: ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ تقديره: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ﴾ داعين ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ (٢) وقرِئ ﴿وَخُفْيَةً﴾ (٣) وهما لغتان (٤)، قال ابن عباس (٥) والحسن (٦): (﴿تَضَرُّعًا﴾ علانية ﴿وَخُفْيَةً﴾ سرًّا بالنية).
قال أبو إسحاق: (المعنى: تدعونه مظهرين الضراعة، وهو شدة الفقر إلى الشيء والحاجة، وتدعونه خفية أي: في أنفسكم تضمرون (٧) فقركم وحاجتكم إليه كما تظهرون) (٨).
(٢) أي في محل نصب على الحال من مفعول ﴿يُنَجِّيكُمْ﴾ و ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ مصدر في موضع الحال. انظر: "الفريد" ٢/ ١٦٥، و"الدر المصون" ٤/ ٦٦٩.
(٣) قرأ عاصم في رواية أبي بكر (خِفْيَة) بكسر الخاء، وقرأ الباقون بضمها.
انظر: "السبعة" ص ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٧٠، و"التذكرة" ٢/ ٤٠٠، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٤) انظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"إعراب القراءات" ١/ ١٥٩، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١، ولأبي علي ٣/ ٣١٧، ولابن زنجلة ص ٢٥٥، و"الكشف" ١/ ٤٣٥.
(٥) "تنوير المقباس" ٢/ ٢٧، وقال السيوطي في "الدر" ٣/ ٣١، أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: ٥٥]، قال: (السر).
(٦) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣١٧، قال: (روي عن الحسن: التضرع العلانية والخفية بالنية) ا. هـ
(٧) في (ش): (يضمرون).
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥٩، ونحوه ذكر النحاس في "معانيه" ٢/ ٤٤٠.

وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ وقرأ الكوفيون (١): ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ حملوه على الغيبة لقوله قبله: ﴿تَدْعُونَهُ﴾ ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾ (٢)، وقوله بعده: ﴿قُلْ الله يُنَجِّيكُمْ﴾ [الأنعام: ٦٤] ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ﴾ [الأنعام: ٦٥] فأنجانا أولى من ﴿أَنْجَيْتَنَا﴾ لكونه على ما قبله وما بعده [من لفظ الغيبة، وفيه إضمار على تقدير: يقولون: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ في موضع الحال مثل ﴿تَدْعُونَهُ﴾، ومن قرأ: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ فالتقدير عنده: داعين وقائلين ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾، فواجه بالخطاب، ولم يراع ما راعاه الكوفيون من المشاكلة بما قبله وما بعده] (٣). ويقوي هذه القراءة قوله في آية أخرى: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [يونس: ٢٢]. وأمال (٤) حمزة والكسائي ﴿أَنْجَانَا﴾ وهو مذهب حسن؛ لأن هذا النحو من الفعل إذا كان على أربعة أحرف استمرت فيه الإمالة لانقلاب الألف إلى الياء في المضارع (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ قال ابن عباس: (من
انظر: "السبعة" ص ٢٥٩، و"المبسوط" ص ١٦٩، و"التذكرة" ٢/ ٤٠١، و"التيسير" ص ١٠٣، و"النشر" ٢/ ٢٥٩.
(٢) جاء في (ش): تكرار قوله: (حملوه على الغيبة؛ لقوله قبله ﴿تَدْعُونَهُ﴾ ﴿لَئِنْ أَنْجَانَا﴾).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ش).
(٤) في (أ): (وأما حمزة)، وهو تحريف.
(٥) هذا قول أبي علي الفارسي في "الحجة" ٣/ ٣٢٣ - ٣٢٤، وانظر: "معاني القراءات" ١/ ٣٦٢، و"إعراب القراءات وعللها" ١/ ١٦٠، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٤١/ ١٤٢، و"الحجة" لابن زنجلة ص ٢٥٥، و"الكشف" ١/ ٤٣٥، وانظر: "تعريف الإمالة" ومراجعها فيما سبق.