آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ

ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا». وقال ابن كثير إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
وينطوي في الحديث أولا: مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي ﷺ لتسكينه وتطمينه. وثانيا: حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. وثالثا: صورة من صدق عاطفة النبي ﷺ وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.
أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي ﷺ إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح ردّ ورشق حتى أدمي. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

صفحة رقم 100

(١) جرحتم: اقترفتم وعملتم.
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلّا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السموات والأرض والبرّ والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي ﷺ ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في علمه. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ... والآيات الثلاث التالية لها
١- أورد المفسرون في صدد جملة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه: «قال النبي ﷺ مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ

صفحة رقم 101

اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
لقمان: [٣٤] «١». وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلّا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلّا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلّا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب. حيث يبدو من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النصّ القرآني في مقامه والله أعلم.
٢- روى المفسرون عن أهل التأويل أن جملة كِتابٍ مُبِينٍ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومرّ منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن

(١) التاج ج ٤ ص ١٨١ والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث.

صفحة رقم 102

مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.
٣- روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالوفاة الكبرى وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.
٤- روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ثُمَّ رُدُّوا عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.
٥- وفي صدد ما جاء في الآية [٦١] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.

صفحة رقم 103
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية