آيات من القرآن الكريم

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عِنْدَهُ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ. وَلَوْ حَصَلَ مَوْجُودٌ آخَرُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لَكَانَ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ حَاصِلَةً أَيْضًا عِنْدَ ذَلِكَ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ الْحَصْرُ. وَأَيْضًا فَكَمَا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، فَكَذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ يُسَاعِدُ عَلَيْهِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَبْدَأَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ وَالصَّنَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُؤَثِّرِ وَالْمُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ هُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ. فَالْمَفْتَحُ الْأَوَّلُ لِلْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَيْسَ إِلَّا لَهُ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ أَثَرٌ وَالْعِلْمُ بِالْأَثَرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمُؤَثِّرِ. فَظَهَرَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ مَفَاتِحَ الْغَيْبِ لَيْسَتْ إِلَّا عِنْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قُرِئَ وَلَا حَبَّةٌ وَلَا رَطْبٌ وَلَا يَابِسٌ بِالرَّفْعِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَحَلٍّ مِنْ وَرَقَةٍ وَأَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ مِنْهُمْ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا فِي الدَّارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللَّه تَعَالَى لَا غَيْرَ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ. وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَثْبَتَ كَيْفِيَّةَ الْمَعْلُومَاتِ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الْحَدِيدِ: ٢٢] وَفَائِدَةُ هَذَا الْكِتَابِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا كَتَبَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِتَقِفَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى نَفَاذِ عِلْمِ اللَّه تَعَالَى فِي الْمَعْلُومَاتِ وأنه لا يغيب عنه مما في السموات وَالْأَرْضِ شَيْءٌ. فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُمْ يُقَابِلُونَ بِهِ مَا يَحْدُثُ فِي صَحِيفَةِ هَذَا الْعَالَمِ فَيَجِدُونَهُ مُوَافِقًا لَهُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ تَنْبِيهًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى أَمْرِ الْحِسَابِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مِنْ كُلِّ مَا يَصْنَعُونَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُهْمِلُ الْأَحْوَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَلَا تَكْلِيفٌ فَبِأَنْ لَا يُهْمِلَ الْأَحْوَالَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَوْلَى.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَهْلُ. فَإِذَا كَتَبَ أَحْوَالَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّامِّ امْتَنَعَ أَيْضًا تَغْيِيرُهَا وَإِلَّا لَزِمَ الْكَذِبُ فَتَصِيرُ كِتْبَةُ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ مُوجِبًا تَامًّا وَسَبَبًا كَامِلًا فِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ مَا تَأَخَّرَ وَتَأَخُّرُ/ مَا تَقَدَّمَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القيامة» واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَمَالَ عِلْمِهِ بِالْآيَةِ الْأُولَى بَيَّنَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى نَقْلِ الذَّوَاتِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ وَمِنَ النَّوْمِ إِلَى اليقظة واستقلاله بحفظها فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَدْبِيرُهَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ حالة النوم واليقظة.
فأما قوله: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنِيمُكُمْ فَيَتَوَفَّى أَنْفُسَكُمُ الَّتِي بِهَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالتَّمْيِيزِ كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى

صفحة رقم 12
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية