آيات من القرآن الكريم

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ

كمال علم الله تعالى وقهره العباد
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٢]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
الإعراب:
مِنْ وَرَقَةٍ: من زائدة من وجه، وغير زائدة من وجه، لأنها قد أفادت معنى العموم، ووَرَقَةٍ: في موضع رفع فاعل تَسْقُطُ.
وَلا حَبَّةٍ أي ولا تسقط من حبّة في ظلمات الأرض. فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ صفة لحبّة، وتقديره: كائنة في ظلمات الأرض.
إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ استثناء منقطع، وتقديره: إلا هو «كائن» في كتاب مبين. والجار والمجرور في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ.
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا التأنيث على تقدير: جماعة رسلنا. ومن قرأ: توفّاه رسلنا بالتّذكير، على تقدير: جمع رسلنا. كقولك: قامت الرجال وقام الرجال. وهكذا في كلّ جماعة يجوز تذكير الفعل وتأنيثه، فالتذكير على معنى الجمع، والتأنيث على معنى الجماعة.
مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مَوْلاهُمُ: في موضع جرّ على البدل من اسم الله تعالى، والْحَقِّ:
صفة لمولاهم. ويجوز نصب الْحَقِّ إما على المصدر، أو بتقدير: أعني.

صفحة رقم 226

البلاغة:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ استعار المفاتح للأمور الغيبية كأنها مخازن خزنت فيها المغيبات.
قال الزمخشري في الكشاف: ١/ ٥٠٩: جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالإغلاق والأقفال، والمراد أن الله تعالى وحده هو العالم بالمغيبات، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ استعار توفي الموت للنوم لما بينهما من التشابه في زوال الإحساس والتمييز.
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ والليل والنهار بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَعِنْدَهُ أي الله تعالى. مَفاتِحُ جمع مفتح أي مخزن، أو مفتاح: وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال، والمراد هنا: خزائن الغيب أو الطّرق الموصلة إليه. الْبَرِّ الأرض اليابسة.
الْبَحْرِ المكان المتّسع للماء الكثير. يَتَوَفَّاكُمْ التّوفي: الأخذ التّام الكامل، أو استيفاء الشيء أو إحصاء عدده، ثم أطلق التّوفي على الموت لأن الأرواح تقبض وتؤخذ أخذا تاما، كما أطلق على النوم، وليس ذلك موتا حقيقة، بل هو قبض الأرواح عن التّصرّف بالنّوم كما يقبضها بالموت.
جَرَحْتُمْ عملتم وكسبتم بالجوارح، والجرح كالكسب يطلق على الخير والشّرّ، والاجتراح: فعل الشّرّ خاصة، كما في قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
[الجاثية ٤٥/ ٢١].
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يوقظكم من النوم في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليقضى: ينفذ، والأجل: هو أجل الحياة. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي بالبعث، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم به. حَفَظَةً ملائكة تحصي أعمالكم وهم الكرام الكتبة من الملائكة: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار ٨٢/ ١٠- ١١].
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا هم الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ يقصّرون فيما يؤمرون به. ثُمَّ رُدُّوا أي الخلق. مَوْلاهُمُ مالكهم. الْحَقِّ الثابت العدل ليجازيهم.
لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فيهم. وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدّنيا، لحديث وارد بذلك.
المناسبة:
الآيات متّصلة بما قبلها لأنه تعالى قال في الآية الأولى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ

صفحة رقم 227

بِالظَّالِمِينَ
ثم ذكر هنا مدى سعة علمه وقدرته، فعنده مفاتح الغيب، وهو المتصرّف في الخلق أجمعين، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحافظ المتوفي، وهو المحاسب خلقه في أسرع وقت.
التفسير والبيان:
خزائن الغيب ومفاتيحها التي يتوصّل بها إلى علم الغيب عند الله، وهو المتصرّف فيها، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يعلم بالغيب أحد سواه، وينفذ منها ما يراه في الوقت المناسب لحكمته.
والغيبيات التي اختصّ الله بها خمس،
روى البخاري عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» [لقمان ٣١/ ٣٤].
وجاء في الخبر أن هذه الآية لما نزلت نزل معها اثنا عشر ألف ملك.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: من زعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل ٢٧/ ٦٥].
وفي معناها أيضا قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن ٧٢/ ٢٦- ٢٧].
ويعلم سبحانه حديث النفس، ويعلم السر وأخفى، فقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [النمل ٢٧/ ٧٤- ٧٥] وقال: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر ٤٠/ ١٩].

صفحة رقم 228

وجملة لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ توكيد للجملة السابقة.
ثم فصّل تعالى ما أجمل، وعدّد بعض نواحي العلم التي يحيط بها فقال:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. أي يعلم الأشياء المشاهدة لكم، كما يعلم المغيبات، فيعلم كل ما هو كائن في البر والبحر، فعلمه محيط بجميع الموجودات بريها وبحريها، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ويعلم سقوط أي ورقة من أوراق الشجر في أي مكان وزمان، في البر والبحر، ويعلم الحركات حتى من الجمادات، وبالأولى الحيوانات، ولا سيما المكلفون منهم من الجن والإنس، ويعلم الأحوال المتعلقة بالذوات إذ سقوط الورق حال من الأحوال.
ويعلم ما تسقط من حبة في ظلمات الأرض، سواء بفعل الإنسان كالزارع، أو الحيوان كالنمل، أو بغير فعل الإنسان كالساقط من النبات في شقوق الأرض، ويعلم ما يسقط من الثمار، رطبا ويابسا، حيا وميتا، وهكذا علم كل الكائنات مكنون ثابت في كتاب واضح لا يمحى هو اللوح المحفوظ، الذي سجل في كل شيء، وسجل عدده ووقت وجوده وفنائه. وجعل الكتاب مبينا لأنه يبين عن صحة ما هو موجود فيه، قبل أن يخلق الله الخلق، وهذا قول الزجاج، كما قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
[الحديد ٥٧/ ٢٢]. واختار الرازي وصوب أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير «١».
والخلاصة: أنه تعالى يعلم الغيب والشهادة، والظاهر والباطن، والرطب واليابس، والسر وأخفى وكل شيء في الكائنات، يعلم بالكليات وبالجزئيات.

(١) تفسير الرازي: ١٣/ ١١

صفحة رقم 229

ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر قدرته وتصرفه في الكون والمراحل التي يمر بها الإنسان في أحوال المعيشة والموت والبعث وعند الحساب في الدار الآخرة فقال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.. أي أن الله يتوفى عباده في منامهم بالليل أي بالنوم، وهذا هو التوفي الأصغر، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر ٣٩/ ٤٢] فذكر في كل من هاتين الآيتين حكم الوفاتين: الصغرى، ثم الكبرى.
ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم، في حال سكونهم وحال حركتهم، كما قال تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد ١٣/ ١٠].
ثم بعد هذا التوفي بالنوم والعلم بأعمالكم في النهار، يبعثكم في النهار أي يثيركم ويرسلكم فيه، على ما هو الأظهر الذي رجحه ابن كثير، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي.
هذا التقلب في الليل والنهار لأجل أن يقضى وينفذ الأجل المسمى الذي في علمه تعالى لكل واحد منكم، فإن الآجال والأعمار محدودة ومقدرة مكتوبة سابقا.
ثم إلى الله مرجعكم يوم القيامة بعد تمام الآجال، ثم يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، ويجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله هو القاهر فوق عباده أي هو الذي قهر كل شيء، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء، وهو القادر على البعث لأن من قدر على بعث من توفي بالنوم قادر على بعث من توفي بالموت، وهو المتصرف بعباده، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة.

صفحة رقم 230

وهو الحافظ الذي يرسل حفظة من الملائكة ليلا ونهارا يحفظون بدن الإنسان، ويحصون أعماله، ولا يفرطون بشيء منها، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار ٨٢/ ١٠- ١٢] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق ٥٠/ ١٧- ١٨]. وفي معنى الآية قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي بأمره [الرعد ١٣/ ١١].
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون».
والحكمة في كتابة الحفظة الملائكة أعمال الإنسان مع أن الله أعلم بكل شيء:
هي الإتيان بدليل مادي محسوس لإقامة الحجة على الإنسان، ولان المرء إذا عرف تدوين أعماله انزجر عن الممنوعات، وأقدم على الطاعات، كما قال تعالى:
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩].
يرسل عليكم الحفظة الملائكة لإحصاء الأعمال، حتى إذا حان الأجل، قبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة، هؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت، كما قال تعالى: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة ٣٢/ ١١] قال ابن عباس وغيره: لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم.
والحال أن هؤلاء الملائكة الحفظة لا يفرطون أي لا يقصرون في حفظ روح

صفحة رقم 231

المتوفى، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين، عياذا بالله من ذلك.
ثم يرد هؤلاء الذين تتوفاهم الرسل إلى الله، أي إلى حكمه وجزائه، إلى الله مولاهم، أي مالكهم الذي يلي أمورهم، الحق أي العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، يحاسب الكل في أسرع وقت وأقصره، ولا يشغله حساب عن حساب،
جاء في الحديث: «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة».
ونظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [النمل ٢٧/ ٧٨] وقوله: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد ١٣/ ٤١] وقوله: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر ٣٩/ ٤٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الله تعالى عالم الغيب والشهادة، كلا وجزءا، واختص بعلم خمسة أمور لا يعلمها إلا هو: وهي علم الساعة، ووقت تنزيل الغيث (المطر) ومقداره، وعلم ما يكنّ في الأرحام بأوصاف وطبائع معينة، وعلم المستقبل، وعلم آجال الناس.
وعلمه محيط بكل حركة وسكنة، وجماد وحيوان ونبات، وسرّ الإنسان وحديث النفس وخلجات القلب.
والله تعالى عنده علم الغيب، وبيده الطرق الموصلة إليه، لا يملكها إلا هو، فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، ولا يكون ذلك من

صفحة رقم 232

إفاضته إلا على رسله، بدليل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران ٣/ ١٧٩] وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن ٧٢/ ٢٦- ٢٧].
٢- قال العلماء: أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه إلا من اصطفى من عباده، فمن قال: إنه ينزّل الغيث غدا وجزم فهو كافر، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا. وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم وقال: إن النّوء «١» ينزل الله به الماء عادة، وأنه سبب الماء عادة، وأنه سبب الماء على ما قدّره وسبق في علمه، لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبها بكلمة أهل الكفر، وجهلا بلطيف حكمته لأنه ينزل متى شاء، مرة بنوء كذا، ومرة دون النّوء «٢».
والكهانة (ادعاء معرفة الماضي وعلم الغيب) والعرافة (ادعاء معرفة الماضي والمستقبل) كذب يتنافى كل منهما مع أصل معرفة الله الغيب وانحصار ذلك به،
جاء في صحيح مسلم عن بعض أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن النّبي صلى الله عليه وآله قال: «من أتى عرّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة»
والعرّاف: هو الحازر والمنجّم الذي يدعي علم الغيب، ويستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدّعي معرفتها، وقد يستعين بالنجوم وغيرها، وأسباب معتادة في ذلك. وهذا فن العيافة، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة.
قال ابن عبد البر: من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسّحت والرشا وأخذ الأجرة على النياحة والغناء، وعلى الكهانة وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر واللعب والباطل كله.

(١) النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله من ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.
(٢) تفسير القرطبي: ٧/ ٢

صفحة رقم 233

٣- الإشارة للكتاب المبين أي اللوح المحفوظ: لتعتبر الملائكة بذلك، لا أنه سبحانه كتب ذلك لنسيان يلحقه، تعالى عن ذلك.
٤- الله المتصرف في الإنسان بنومه وهو الموتة الصغرى، وبموته الحقيقي وهو الموتة الكبرى، والفرق بينهما أن النوم فيه قبض الروح عن التصرف، وأما الموت ففيه قبض نهائي للروح عن الحركة وسلخها من الجسد، ففي النوم تبقى الحياة، بدليل بقاء الحركة والتنفس، فإذا انقضى عمره خرجت روحه وتنقطع حياته، وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس.
٥- إمهاله تعالى للكفار ليس لغفلة عن كفرهم، فإنه أحصى كل شيء عددا، وعلمه وأثبته، ولكن ليقضي أجلا مسمى من رزق وحياة، ثم يرجعون إليه فيجازيهم.
وقد دلت الآية على الحشر والنشر بالبعث لأن النشأة الثانية منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر.
٦- في تحديد الأجل المسمى للحياة والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء تأييد لما تقدم من حكمة تأخير ما كان يستعجله مشركو مكة من العذاب، وأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فمن نجا من الأول لم يسلم من الآخر.
والله في كل الأحوال هو القاهر فوق عباده فوقية مكانة ورتبة، لا فوقية مكان وجهة.
٧- لله ملائكة تحفظ أعمال العباد وتحفظهم من الآفات، وهناك مهام أخرى للملائكة متعلقة بالبشر، منها قبض الأرواح، ولملك الموت أعوان يسلّون الروح من الجسد حتى إذا كان عند قبضها، قبضها ملك الموت.
والمتوفي على الحقيقة هو الله، لكن قد ينسب التوفي تارة إلى ملك الموت

صفحة رقم 234
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية