
وَلَا تَضِقْ بِهِ صَدْرًا، وَأَيْضًا فَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى. وَهَذَا إِنْبَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنْ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ يَخْتَصُّ بِحَالَةٍ خَاصَّةٍ فَلَا يُطْرَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاقِفِ التَّشْرِيعِ.
وإنّما عدل على الْأَمْرِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْجَهْلِ يَتَضَمَّنُهُ فَيَتَقَرَّرُ فِي الذِّهْنِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ تَحْرِيضًا عَلَى اسْتِحْضَارِ الْعِلْمِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ للمتعلّم: لَا تنسى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ نَهْيٌ عَنْ شَيْءٍ تَلَبَّسَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَهَّمَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَذَهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ لَا تستبين.
[٣٦]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٦]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
تَعْلِيلٌ لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: ٣٥] مِنَ تَأْيِيسٍ مِنْ وُلُوجِ الدَّعْوَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ دُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَرَمَهُمْ فَائِدَةَ السَّمْعِ وَفَهْمِ الْمَسْمُوعِ.
وَمَفْهُومُ الْحَصْرِ مُؤْذِنٌ بِإِعْمَالِ منطوقه الَّذِي يؤمىء إِلَى إِرْجَاءٍ بَعْدَ تَأْيِيسٍ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ قُلُوبًا يَفْقَهُونَ بِهَا وَآذَانًا يَسْمَعُونَ بِهَا فَأُولَئِكَ يَسْتَجِيبُونَ.
وَقَوْلُهُ: يَسْتَجِيبُ بِمَعْنَى يُجِيبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ زَائِدَانِ لِلتَّأْكِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٥].
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ يَسْتَجِيبُ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ.
وَمَعْنَى يَسْمَعُونَ، أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ مَا يُلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِرْشَادِ لِأَنَّ الضَّالِّينَ كَمَنْ لَا يَسْمَعُ. فَالْمَقْصُودُ سَمْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ سَمْعُ الِاعْتِبَارِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ:
وَأَمَّا الْمُعْرِضُونَ

عَنْكَ فَهُمْ مِثْلَ الْمَوْتَى فَلَا يَسْتَجِيبُونَ، كَقَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النَّمْل: ٨٠]. فَحَذَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ قَدْ يَكُونُ فُقْدَانُ سَمْعِهِ مِنْ عِلَّةٍ كَالصَّمَمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ، كَمَا قَالَ عبد الرحمان بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ:
لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا | وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي |
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ اسْتِعَارَةً أَيْضًا لِلْهِدَايَةِ بَعْدَ الضَّلَالِ تَبَعًا لِاسْتِعَارَةِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي التَّرْشِيحِ- فِي فَنِّ الْبَيَانِ- مِنْ كَوْنِهِ تَارَةً يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِلَّا تَقْوِيَةَ الِاسْتِعَارَةِ، وَتَارَةً يُسْتَعَارُ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ إِلَى شِبْهِهِ مِنْ مُلَائِمِ الْمُشَبَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمرَان: ١٠٣]. فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْكَلَامِ وَعْدٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ الْمُكَذِّبِينَ سَيَهْدِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُمْ مَنْ لَمْ يَسْبِقْ فِي عِلْمِهِ حِرْمَانُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ زِيَادَةً فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لِيَلْقَوْا جَزَاءَهُ حِينَ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ. وَتَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَالِكَ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ اسْتِطْرَادًا تَخَلَّصَ بِهِ إِلَى قرع أسماعهم بِإِثْبَاتِ الْحَشْرِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ الْبَعْثِ الْحَقِيقِيِّ، فَيَكُونُ الْبَعْثُ فِي قَوْلِهِ: يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي التَّخَلُّصِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ صفحة رقم 208