
كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة فَرَّطْنا فِيها الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو للساعة على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان. ومنه فرّطت في جنب الله يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ كقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما ألف الكسب بالأيدى ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٢]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: ولدار الآخرة. وقرئ: تعقلون بالتاء والياء.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٣]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
قَدْ في قَدْ نَعْلَمُ بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته «١»، كقوله:
أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ | وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ «٢» |
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والغرض التعبير عن المعنى بما يشعر بعكسه، تنبيها على أنه بلغ الآية التي ما بعدها إلا الرجوع إلى الضد. وذلك من لطائف لغة العرب وغرائبها.
(٢).
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله | ولكنه قد يهلك المال نائله |
تراه إذا ما جئته متهللا | كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
ولو لم يكن في كفه غير نفسه | لجاد بها فليتق الله سائله |
فمن مثل حصن في الحروب ومثله | لانكار ضيم أو لخصم يحاوله |
فسائله الأول مضاف لمفعوله الثاني. والثاني مضاف للأول. وقوله «فمن» استفهام إنكارى، أى ما مثله أحد في الحروب، وما مثله أحد معد لانكار الظلم وإبائه والمحاولة والمعالجة والطلب. وضمير يحاوله للضيم، أو لحصن، أو لمن. ويروى الشعر برواية أخرى، على أنه وصف لمعن بن زائدة وهي:
يقولون معن لا زكاة لماله | وكيف يزكى المال من هو باذله |
إذا حال حول لم تجد في دياره | من المال إلا ذكره وجمائله |
تراه إذا ما جئته متهللا | كأنك تعطيه الذي أنت نائله |
تعود بسط الكف حتى لو انه | أراد انقباضا لم تطعه أنامله |

والهاء في إِنَّهُ ضمير الشأن لَيَحْزُنُكَ قرئ بفتح الياء وضمها. والَّذِي يَقُولُونَ هو قولهم ساحر كذاب لا يُكَذِّبُونَكَ قرئ بالتشديد والتخفيف، من كذبه إذا جعله كاذبا في زعمه «١» وأكذبه إذا وجده كاذبا. والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه- إذا أهانه بعض الناس-: إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى. وفي هذه الطريقة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ وقيل: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم. وقيل: فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
كان رسول الله ﷺ يسمى الأمين «٢» فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون. وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك لأنك عندنا صادق، وإنما نكذب ما جئتنا به. وروى أنّ الأخنس بن شريق قال لأبى جهل: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق
(٢). لم أجده عنه وفي الطبقات من حديث يعلى بن أمية قال «بلغ رسول الله ﷺ خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين» ورواه أيضا من حديث على ابن أبى طالب نحوه.