آيات من القرآن الكريم

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ، يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ وَاقِفِينَ عَلَى اللَّه تَعَالَى، كَمَا يَقِفُ أَحَدُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَعْلِيًا عَلَى ذَاتِ اللَّه تَعَالَى وَأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَذَابِ/ الْكَافِرِينَ وَثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ أمر الآخر.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْوُقُوفِ الْمَعْرِفَةُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِكَ أَيْ عَرَفْتُهُ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ وُقِفُوا لِأَجْلِ السُّؤَالِ فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، مِنْ وُقُوفِ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَقْصُودِ بِالْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُقِرُّونَ بِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ حَالَهُمْ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ سَيَئُولُ إِلَى الْإِقْرَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْقِيَامَةَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ وَهُوَ كَالْمُنَاقِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٤] وَالْجَوَابُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ وَلا يُكَلِّمُهُمُ أَيْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَزُولُ التَّنَاقُضُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُمْ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِهِ حَقًّا مَعَ الْقَسَمِ وَالْيَمِينِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَخَصَّ لَفْظَ الذَّوْقِ لِأَنَّهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ يَجِدُونَهُ وِجْدَانَ الذَّائِقِ فِي قُوَّةِ الْإِحْسَاسِ وَقَوْلُهُ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ احْتِجَاجًا عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا [الْأَنْعَامِ: ٢] عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَفَسَّرْنَاهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ عَنْ هَذَا المذهب والقول.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣١]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْحُ حَالَةٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُنْكِرِي/ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَهِيَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْخُسْرَانِ. وَالثَّانِي: حَمْلُ الْأَوْزَارِ الْعَظِيمَةِ.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ حُصُولُ الْخُسْرَانِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى بَعَثَ جَوْهَرَ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ الْقُدْسِيَّةِ الْجُسْمَانِيَّ وَأَعْطَاهُ هَذِهِ الْآلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَالْأَدَوَاتِ الْجَسَدَانِيَّةَ وَأَعْطَاهُ الْعَقْلَ وَالتَّفَكُّرَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي يَعْظُمُ مَنَافِعُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَالْقُوَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْقُوَّةَ الْفِكْرِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ اللَّذَّاتِ الدَّائِرَةِ وَالسَّعَادَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ ثُمَّ انْتَهَى الْإِنْسَانُ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ قَدْ فَنِيَ وَالرِّبْحَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ هو

صفحة رقم 512

الْمَطْلُوبُ فَنِيَ أَيْضًا وَانْقَطَعَ فَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ لَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَثَرٌ وَلَا مِنَ الرِّبْحِ شَيْءٌ. فَكَانَ هَذَا هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَهَذَا الْخُسْرَانُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُنْتَهَى السَّعَادَاتِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالَاتِ هُوَ هَذِهِ السَّعَادَاتُ الْعَاجِلَةُ الْفَانِيَةُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِهَذِهِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ الْعَاجِلَةِ بَلْ يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْخُسْرَانُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّه وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ قَدْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَأَنَّهُمْ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي تَحْصِيلِ الزَّادِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وُجُوهِ: خُسْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ. وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاشْتِغَالِ بِعُبُودِيَّتِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي حُبِّهِ وَخِدْمَتِهِ وَأَيْضًا فِي الِانْقِطَاعِ عَنِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ مَحَبَّتِهَا وَفِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَهَا، فَمَنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْعَى فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَسْعَى فِي قَطْعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، فَإِذَا مَاتَ بَقِيَ كَالْغَرِيبِ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، وَكَالْمُنْقَطِعِ عَنْ أَحْبَابِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ فَيَحْصُلُ لَهُ الْحَسَرَاتُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ فُقْدَانِ الزَّادِ وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمُخَالَطَةِ بِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَالَمِ وَيَحْصُلُ لَهُ الْآلَامُ الْعَظِيمَةُ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ عَنْ لَذَّاتِ هَذَا الْعَالَمِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الِاسْتِسْعَادِ بِخَيْرَاتِ هَذَا الْعَالَمِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ المراد من قوله قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَهَذَا تَقْرِيرُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْخُسْرَانِ فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْقِيَامَةَ، وَقَدْ بَالَغْنَا فِي شَرْحِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٦] وَإِنَّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ لِأَنَّ مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفٌ لَا حُكْمَ/ فِيهِ لِأَحَدٍ إِلَّا للَّه تَعَالَى، وَلَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ إِلَّا للَّه. وَقَوْلُهُ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) غَايَةٌ لِقَوْلِهِ كَذَّبُوا لَا لِقَوْلِهِ قَدْ خَسِرَ لِأَنَّ خُسْرَانَهُمْ لَا غَايَةَ لَهُ ومعنى (حتى) هاهنا أَنَّ مُنْتَهَى تَكْذِيبِهِمُ الْحَسْرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ السَّاعَةُ بَغْتَةً.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَتَحَسَّرُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ.
قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ وُقُوعًا فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا جُعِلَ مِنْ جِنْسِ السَّاعَةِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ»
وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ الْقِيَامَةُ، وَفِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِهَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُسَمَّى السَّاعَةَ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ إِلَّا سَاعَةُ الْحِسَابِ. الثَّانِي: السَّاعَةُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ الْقِيَامَةُ سُمِّيَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فِي سَاعَةٍ لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّه تَعَالَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَغْتَةً وَالْبَغْتُ وَالْبَغْتَةُ هُوَ الْفَجْأَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّاعَةَ لَا تَجِيءُ إِلَّا دَفْعَةً لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى يَكُونُ مَجِيئُهَا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَكُونُ حُدُوثُهَا وَقَوْلُهُ بَغْتَةً انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ بِمَعْنَى: بَاغِتَةً أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: بَغَتَتْهُمُ السَّاعَةُ بغتة. ثم قال تعالى: قالُوا يا حَسْرَتَنا قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى دُعَاءِ الْحَسْرَةِ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا سَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْحَسْرَةِ وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ تَعْظِيمِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِهَذِهِ اللفظة كقوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] ويا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: ٥٦] يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هود: ٧٢]

صفحة رقم 513

وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْحَسْرَةُ عَلَيْنَا في تفريطنا ومثله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يُوسُفَ: ٨٤] تَأْوِيلُهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى مَا وَقَعَ بِي مِنَ الْأَسَفِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّكَ إِذَا قُلْتَ يَا عَجَبَاهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ يَا عَجَبُ احْضَرْ وَتَعَالَ فَإِنَّ هَذَا زَمَانُكَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: حَصَلَ للنداء هاهنا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّدَاءَ لِلْحَسْرَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادَى هُوَ نَفْسُ الْحَسْرَةِ عَلَى مَعْنَى: أَنَّ هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضَرِي وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَقَوْلُهُ عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِيهِ بَحْثَانِ.
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُقَالُ: فَرَّطْتُ فِي الشَّيْءِ أَيْ ضَيَّعْتُهُ فَقَوْلُهُ فَرَّطْنا أَيْ تَرَكْنَا وَضَيَّعْنَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرَّطْنَا أَيْ قَدَّمْنَا الْعَجْزَ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَطَ فُلَانٌ إِذَا سَبَقَ وَتَقَدَّمَ، وَفَرَّطَ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّمَهُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَالتَّفْرِيطُ عِنْدَهُ تَقْدِيمُ التَّقْصِيرِ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ فِيها إِلَى مَاذَا يَعُودُ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدُّنْيَا وَالسُّؤَالُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلدُّنْيَا ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ عَوْدُ هَذَا الضَّمِيرِ إِلَيْهَا. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّقْصِيرِ لَيْسَ إِلَّا الدُّنْيَا، فَحَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ/ الْمُرَادُ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي السَّاعَةِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي إِعْدَادِ الزَّادِ لِلسَّاعَةِ وَتَحْصِيلِ الْأُهْبَةِ لَهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَعُودَ الكناية إلى معنى ما في قوله ما فَرَّطْنا أَيْ حَسْرَتُنَا عَلَى الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَّطْنَا فِيهَا. وَالرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْكِنَايَةُ تَعُودُ إِلَى الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُسْرَانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِ الصَّفْقَةِ وَالْمُبَايَعَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ، وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ حَصَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا بِهِ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ نِهَايَةُ الْخُسْرَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَوْزَارُ الْآثَامُ وَالْخَطَايَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْوِزْرُ الثِّقَلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَمْلِ يُقَالُ وَزَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ حَمَلْتُهُ أَزِرُهُ وِزْرًا، ثُمَّ قِيلَ لِلذُّنُوبِ أَوْزَارٌ لِأَنَّهَا تُثْقِلُ ظَهْرَ مَنْ عَمِلَهَا، وَقَوْلُهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر:
١٨] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا بَسَطَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَ فِيهِ الْمَتَاعَ احْمِلْ وِزْرَكَ وَأَوْزَارُ الْحَرْبِ أَثْقَالُهَا مِنَ السِّلَاحِ وَوَزِيرُ السُّلْطَانِ الَّذِي يَزِرُ عَنْهُ أَثْقَالَ مَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْوِلَايَةِ أَيْ يَحْمِلُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أَيْ يَحْمِلُونَ ثِقَلَ ذُنُوبِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهِمُ الْأَوْزَارِ فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَطْيَبُهَا رِيحًا وَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَارْكَبْنِي أَنْتَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مَرْيَمَ: ٨٥] قَالُوا رُكْبَانًا وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ شَيْءٌ هُوَ أَقْبَحُ الْأَشْيَاءِ صُورَةً وَأَخْبَثُهَا رِيحًا فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْفَاسِدُ طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَرْكَبُكَ الْيَوْمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الثِّقَلُ كَمَا يُذْكَرُ فِي الْمَنْقُولِ، فَقَدْ يُذْكَرُ أَيْضًا فِي الْحَالِ وَالصِّفَةِ يُقَالُ: ثَقُلَ عَلَيَّ خِطَابُ فُلَانٍ، وَالْمَعْنَى كَرِهْتُهُ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقَاسُونَ عَذَابَ ذُنُوبِهِمْ مُقَاسَاةَ ثِقَلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ أَيْ لَا تُزَايِلُهُمْ أَوْزَارُهُمْ كَمَا تَقُولُ شَخْصُكَ نُصْبَ عَيْنِي أَيْ ذِكْرُكَ مُلَازِمٌ لِي.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ وَالْمَعْنَى بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي يَزِرُونَهُ أَيْ يَحْمِلُونَهُ وَالِاسْتِقْصَاءُ في تفسير

صفحة رقم 514
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية