
وأرشد قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا إلى ما قالوا في الدنيا، وإلى أنهم قوم ماديون، لا يؤمنون بالآخرة، ولو ردّوا لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال، فهم قوم معاندون، أبت نفوسهم الأمارة بالسوء إلا المكث على الضلال والنفاق، والمكر والكيد، والكفر والمعاصي.
ألا فليتأمل العاقل مصير هؤلاء، وما يؤول إليه حالهم من الاضطراب والقلق وتمني الخلاص من العذاب الشديد، ولكن عدل الله يتنافى مع إعفائهم من العقاب، ورحمته بالخلائق جعلته يحذرهم وينذرهم ما يلاقونه في المستقبل المنتظر.
حال المشركين أمام ربهم في الآخرة وحقيقة الدنيا
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)
الإعراب:
وَلَوْ تَرى... : جواب لَوْ محذوف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن، وتقديره: لعلمت حقيقة ما يصيرون إليه. وعَلى رَبِّهِمْ أي على سؤال ربهم، فحذف المضاف.
بَغْتَةً منصوب على المصدر في موضع الحال. والهاء في فِيها تعود على ما لأنه يريد ب ما الأعمال، كأنه قال: على الأعمال التي فرطنا فيها.

أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: ما: نكرة في موضع نصب على التمييز بساء. وفي ساءَ: ضمير مرفوع يفسره ما بعده كنعم وبئس. وقيل: «ما» في موضع رفع بساء.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الدار: مبتدأ، والْآخِرَةُ: صفة له، وخَيْرٌ: خبر المبتدأ. وقرئ ولدار الآخرة خير وتقديره: ولدار الساعة الآخرة خير، ولا بد من هذا التقدير لأن الشيء لا يضاف إلى صفته، فوجب تقدير موصوف محذوف، وهذه الإضافة في نية الانفصال.
البلاغة:
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تشبيه بليغ حيث جعلت الدنيا اللعب واللهو نفسه مبالغة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للتوبيخ.
المفردات اللغوية:
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرضوا على الله، لرأيت أمرا عظيما قالَ لهم على لسان الملائكة توبيخا أَلَيْسَ هذا البعث والحساب بَلى وَرَبِّنا إنه لحق تَكْفُرُونَ به في الدنيا كفروا بلقاء الله بالبعث حَتَّى غاية للتكذيب السَّاعَةُ القيامة: وهي موعد انقضاء أجل الدنيا والحياة وخراب العالم، وبدء الحياة الأخرى بَغْتَةً فجأة يا حَسْرَتَنا هي شدة التألم والندم على ما فات، ونداؤها مجاز، أي هذا أو انك فاحضري عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا مع القدرة على الفعل فِيها أي الدنيا.
أَوْزارَهُمْ جمع وزر: وهو الحمل الثقيل، ويطلق شرعا على الإثم والذنب، كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره، والمراد بقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تحمل مسئولية أفعالهم، بأن تأتيهم ذنوبهم عند البعث في أقبح شيء صورة، وأنتنه ريحا، فتركبهم أَلا ساءَ بئس ما يَزِرُونَ يحملونه حملهم ذلك وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الاشتغال بها لَعِبٌ عمل لا يحقق نفعا ولا يدفع ضررا وَلَهْوٌ ما يشتغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، والمقصود أنه تعالى جعل أعمال الدنيا المحضة لعبا ولهوا واشتغالا بما لا يعني، ولا يعقب منفعة دائمة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، أما الطاعة وكل ما يعين عليها فمن أمور الآخرة. وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنوا.

المناسبة:
لما حكى الله تعالى عن الكفار إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة، بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة، ثم ذكر حقيقة الدنيا ومقارنتها بالآخرة.
التفسير والبيان:
ولو ترى حال المشركين حين تقفهم الملائكة بين يدي ربهم، لوجدت هول أمرهم، ورأيت أمرا خطيرا مدهشا لا يحدّه وصف.
وظاهر الآية غير مراد قطعا لأنه استعلاء على ذات الله تعالى، وهو باطل بالاتفاق، وإنما هذا من قبيل المجاز، فهو مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف الجاني بين يدي الحاكم ليعاتبه، وهم موقوفون ومحبوسون بوساطة الملائكة، امتثالا لأمر الله فيهم، كما قال: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: ٣٧/ ٢٤]. وعبر بهذا التعبير: وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ للدلالة على أن أمرهم مقصور على الله، لا يتصرف فيهم غيره.
ثم يناقشهم الله على لسان الملائكة قائلا لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ أي أليس هذا المعاد بحق، وليس بباطل كما كنتم تظنون.
أجابوا: بلى وربنا، أي أنه الحق الذي لا شك فيه، وأكدوا قولهم باليمين بالله، فشهدوا على أنفسهم بكفرهم، والمقصود أنهم يعترفون بكونه حقا مع القسم واليمين.
فرد الله عليهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم وتكذيبكم الذي دمتم عليه، ولم تفارقوه في الدنيا حتى الموت. وعبر بلفظ الذوق للدلالة على أنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس به.
ثم أخبر تعالى بخبر عام: وهو خسارة من كذب بلقاء الله، وخيبته إذا

جاءته الساعة بغتة، وندامته على ما فرط من العمل للآخرة، وما أسلف من قبيح القول. وسبب الخسارة: إنكار البعث والجزاء الذي يفسد الفطرة الإنسانية، ويؤدي إلى الشر والإثم لأن هذا الإنكار يحصرهمّ الكافرين في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها، والتنافس في متاعها، والغرور بالمجد والاستعلاء والسلطة على الآخرين.
هؤلاء الخاسرون يأتون للحساب يوم القيامة، وهم حاملون ذنوبهم وخطاياهم، يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم على ظهورهم، ألا ما أسوأ تلك الأثقال المحمولة، وبئس شيئا يزرون وزرهم، كقوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٧]. قال ابن عباس: الأوزار: الآثام والخطايا. أما قوله: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ فمعناه:
بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه.
ذكر ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن السدي: أن الأعمال القبيحة أعمال الظالم تتمثل بصورة رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح، يحمله صاحبه يوم القيامة. وعن عمرو بن قيس الملائي: تتمثل الأعمال الصالحة بصورة رجل حسن الصورة طيب الريح، يحمله صاحبها يوم القيامة «١».
ثم جعل الله تعالى غالب أعمال الحياة الدنيا لعبا لا يفيد، ولهوا يشغل عن المصلحة الحقيقية، ومتاعها قليل زائل قصير الأجل، وأما العمل للآخرة فله منافع عظيمة، والآخرة خير وأبقى، خير لمن اتقى الكفر والمعاصي، ونعيمها نعيم دائم خير من نعيم الدنيا الفاني، أفلا تعقلون وتفهمون هذه الحقائق وهي أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وزوال، ومزرعة للآخرة، فتؤمنوا وتعملوا عملا صالحا.

وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تقرير واقعي لحال من وقع في قبضة الحاكم الذي يقضي في جريمته، وإذا كان الغالب على حال المتهمين الإنكار بين يدي قاضي الدنيا، فإن المتهم إذا لم يجد مفرا من الإقرار بجريمته، بادر إلى الاعتراف بكل ما عمل.
وهكذا شأن الكفار والمشركين إذا قدّموا للحساب بين يدي الله، أدركوا ألا فائدة من الإنكار، وحينئذ إذا سئلوا عن البعث والمعاد، أقسموا بالله أنه حق ثابت، فيكون الحكم الصادر في حقهم تنفيذ العقاب المقرر عليهم، جزاء وفاقا على كفرهم.
والنقاش يحدث من قبل الملائكة، تقول لهم بأمر الله: أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا؟ فيقولون: بَلى وَرَبِّنا إنه حق. ولا تناقض بين هذا التساؤل وبين قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ لأن السؤال يكون بواسطة الملائكة، والمراد بقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ: أنه لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع.
ودلت الآيات على توضيح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما- حصول الخسران للمكذبين بالبعث والقيامة والجزاء والحساب. والثاني- حمل الأوزار العظيمة على ظهورهم.
والمراد من الخسران: فوت الثواب العظيم وحصول العقاب الشديد وفي قولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب، أي أنهم قوم مقصرون. وقوله: فِيها أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع، بدليل قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة ٢/ ١٦].

وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب الشديد، ولا شك أن ذلك نهاية الخسران.
ودل قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ على قسمة أعمال الدنيا إلى قسمين: أعمال لا خير فيها ولا نفع، وهي أمور الدنيا المحضة، وهي الغالبة في أعمال الناس، وأعمال الآخرة التي لا لهو فيها ولا لعب وهي أفعال المتقين الأخيار، الذين عمروا دنياهم بصلاح الأعمال وخير الأقوال، روى ابن عبد البر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة- وقال: حديث حسن غريب- قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون. ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله، أو أدّى إلى ذكر الله، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيه».
وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها».
وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء».
ودل قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ على أن الإنسان لا يفكر غالبا تفكيرا يتفق مع حقيقة مصلحته، وإنما قد يرتكب ما يلحق بنفسه الضرر، ودل أيضا على أن الزهد في الدنيا، أي عدم استيلاء حبها على قلبه أمر مرغوب فيه.
وأشارت هذه الآية: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا.. إلى أن منكري البعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها، ولكن يلاحظ أن هذه الحياة نفسها لا يمكن ذمها لأنها بإرادة الله وحكمته، وخلقه وإيجاده، ولأنه لا يمكن التوصل إلى السعادة الأخروية إلا فيها، وإنما المقصود أن الذات الحياة الدنيا وطيباتها لا دوام لها، ولا يبقى منها