آيات من القرآن الكريم

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ

وَضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أى يفترون إلهيته وشفاعته. فإن قلت:
كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً: ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. وأما قول من يقول:
معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا، وحملُ قوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعنى في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عىّ وإقحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ. وما أدرى ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلوا القرآن. روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته- يعنى الكعبة- ما أدرى ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان:
إنى لأراه حقا. فقال أبو جهل: كلا، فنزلت. والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله «١» واعتقاد صحته. ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله

(١). قال محمود: «الأكنة على القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبوله... الخ» قال أحمد رحمه الله: وهذه الآية حسبنا في رد معتقد القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى أراد من هؤلاء المستمعين أن يعوا القرآن ويفقهوه، وأنه لم يمنعهم من ذلك، ومحال على زعمهم أن يمنعهم من ذلك ويريد أن لا يفقهوه، لأن ذلك عندهم قبيح. فانظر كيف تكافحهم هذه الآية بالرد وتنادى عليهم بالخطإ، إذ قوله أَنْ يَفْقَهُوهُ معناه كراهة أن يفقهوه، وبين الارادة على زعمهم، والكراهة على ما أنبأت عنه الآية. بون بعيد، والله الموفق.

صفحة رقم 13

وَجَعَلْنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ وقرأ طلحة: وقرا بكسر الواو حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ هي حتى التي تقع بعدها الجمل. والجملة قوله إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ويُجادِلُونَكَ موضع الحال. ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم، ويجادلونك حال، وقوله: يقول الذين كفروا. تفسير له. والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك. وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث، خرافات وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب وَهُمْ يَنْهَوْنَ الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم فيضلون ويضلون وَإِنْ يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله ﷺ وينأى عنه ولا يؤمن به.
وروى أنهم اجتمعوا إلى أبى طالب وأرادوا برسول الله ﷺ سوءاً. فقال: «١»

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا
وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا «٢»
فنزلت.
(١). أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتيبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا قالت لأبى طالب هذه المقالة فذكر القصة» قال ابن إسحاق: ثم قال: فذكر هذا الشعر.
(٢). لأبى طالب، لما اجتمع عنده قريش وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. «فاصدع» أى اجهر بأمرك حتى تؤثر في القلوب، كصدع الزجاج، أى شقه وكسره. وغض منه يغض- بالضم- غضاضة: وضع ونقص من قدره. وغضغضت الماء وتغضغض هو: نقصته وانتقص. أى ما عليك مذلة ومنقصة من أمرك. وبشر يبشر- بالضم- سر وفرح. وأبشر إبشارا: سر واستبشر. وبشرته وأبشرته أفرحته. أى: افرح وانسر بذلك.
وقرت عينه. بردت سرورا، أى افرح بذلك وانسر. فهو توكيد لأبشر، إلا أنه بطريق الكناية المفيدة للمبالغة.
وعيونا تمييز محول عن الفاعل، أى لتقر عيونك. والمراد بالجمع ما فوق الواحد، أو المبالغة، أو عيونه هو أو عيونه هو والمؤمنين. ويروى «منه» أى من ذلك الأمر. و «لن» حرف لتوكيد النفي كما تشهد به مواضع الاستعمال.
ونفى الوصول: كناية عن نفى المضرة على وجه أبلغ. والباء للملابسة. و «حتى أوسد» غاية مفيدة للتوكيد والتأييد والتوسيد: كناية عن الموت، فيجعل له وسادة تحت رأسه في رمسه. و «دفينا» أى مدفونا حال. ومجيء المضارع المنفي بلن جوابا للقسم لا يجوز إلا في الضرورة كما هنا. وزعمت: أى قلت عند من لا يصدقك، ولقد صدقت في دعواك أنك ناصح للناس، و «كنت ثم» أى عند قولك «أمينا» فيما ادعيت وعرضت علينا دينا صادقا أنه من خير أديان البرية دينا، أى من جهة الديانة، أو من جهة الجزاء. وقيل: قد يراد من التمييز مجرد التوكيد وهذا منه لا محالة في ذلك، فقوله «لا محالة» جملة اعتراضية للتوكيد. والحذار: مصدر بمعنى الحذر من مسبتهم لي. ويروى أو حذارى سبة. والسب أبلغ من اللوم «لوجدتني» يا محمد راضياً بذاك الدين، مظهراً له. وسمح سماحة فهو سمح، كضخم ضخامة فهو ضخم: إذا جاد ولم يبخل.

صفحة رقم 14
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشريّ، جار الله، أبو القاسم
الناشر
دار الكتاب العربي - بيروت
الطبعة
الثالثة - 1407 ه
عدد الأجزاء
4
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية