آيات من القرآن الكريم

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ

قدرة الله على كشف الضر وشهادة الله للنّبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق ومجادلة المشركين في تعدد الآلهة
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)
الإعراب:
أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي: استفهام في محل رفع مبتدأ، وأَكْبَرُ خبره، وشَهادَةً تمييز منصوب، وفَوْقَ منصوب على الظرف، لا في الكاف، بل في المعنى الذي تضمنه لفظ: الْقاهِرُ كما تقول: زيد فوق عمرو في المنزلة، واللَّهُ شَهِيدٌ مبتدأ وخبر.
وَمَنْ بَلَغَ: في موضع نصب لأنه معطوف على الكاف والميم في لِأُنْذِرَكُمْ أي ولأنذر من بلغه القرآن، فحذف العائد، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١] أي: بعثه الله.
وقال تعالى: آلِهَةً أُخْرى ولم يقل: أخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، ومنه قوله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف ٧/ ١٨٠] وقوله: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه ٢٠/ ٥١].
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ يصيبك، والمس أعم من اللمس، فيقال مسّه السوء أي أصابه.
بِضُرٍّ الضر: كل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله، كالمرض والفقر. والضر يعقب الألم والحزن عادة. بِخَيْرٍ الخير: كل ما فيه نفع حقيقي طاهر في الحاضر أو المستقبل، كالعقل والعلم، والعدل، والمساواة والحرية، والصحة والغنى. والشر ضده: وهو ما لا نفع فيه أصلا أو ما كان ضرره أكبر من نفعه.
الْقاهِرُ القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء مع الاستعلاء. الْحَكِيمُ في خلقه.

صفحة رقم 155

سبب النزول: نزول مطلع الآية (١٩) :
قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً: أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد، وقروم بن كعب، وبحري بن عمر، فقالوا:
يا محمد، ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال: لا إله إلا الله، بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله في قولهم: قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الآية.
وقال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد لك أنك رسول، كما تزعم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن البصري وغيره: إن المشركين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية.
المناسبة:
بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن من مقتضى رحمته إمهال الناس للحساب يوم القيامة، وصرف العذاب والفوز بنعيم الآخرة، ثم أردف ذلك ببيان مقتضى الرحمة في الدنيا من جلب الخير والنفع، ودفع الشر والضرر، وأنه لا يملك أحد التصرف في الدنيا سوى الله وحده.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.

صفحة رقم 156

فيقول بما معناه: وإن يصبك أيها الإنسان ضرر أو شدة من ألم أو فقر أو مرض أو حزن أو ذل ونحوه، فلا صارف له عنك ولا مزيل له إلا الله تعالى لأنه القادر على كل شيء، وكذلك إن يحصل كل خير من صحة أو غنى أو عز ونحوه، فهو أيضا من الله، لكمال قدرته على كل شيء، ولأنّه القاهر الغالب صاحب العزة والسلطان والكبرياء، وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، ودانت له الخلائق، وقهر كل شيء، وهو الحكيم في جميع أفعاله، الخبير بمواضع الأشياء، فلا يعطي إلا من يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر ٣٥/ ٢].
وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
أي الغني.
ثم أيّد الله نبيه بشهادة هي أعظم الشهادات وأجلها، وأصحها وأصدقها:
وهي شهادة الله بين نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، شهادة تدل على صدق النّبي صلّى الله عليه وسلّم وتكشف حال أعدائه، فهو تعالى العالم بما جاء به هذا الرسول وما هم قائلون له. وتقدير الكلام: أي شهيد أكبر شهادة؟ فوضع (شيئا) مقام (شهيد) ليبالغ في التعميم. والجواب: الله أكبر شهادة، وهو شهيد بيني وبينكم، أو الله شهيد بيني وبينكم، وإذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له.
والآية تتضمن ردا قاطعا على المشركين الذين كانوا يقولون للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشهد لك بأنك رسول الله؟
ثم أوضع الله مهمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تلقي الوحي وتبليغه للناس جميعا، فقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ.. أي أنزل الله على هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة من عذاب الله إذا كفرتم أو عصيتم، وأبشركم بالجنة إذا آمنتم وأطعتم، وكذا لأنذر

صفحة رقم 157

وأبشر كل من بلغة القرآن من العرب والعجم، فهو نذير لكل من بلغه، كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
أخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: من بلغه القرآن فكأنما شافهته به، ثم قرأ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ».
وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال: «من بلغة القرآن فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم».
وروى عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله».
وروى ابن المنذر وابن جرير وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي قال: «من بلغه القرآن فكأنما رأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم». وهذه الكلمة مروية أيضا عن سعيد بن جبير. ثم أعلن الله براءته من المشركين القائلين بتعدد الآلهة، مبينا أن الواجب إعلان الشهادة بالوحدانية لله عز وجل فقال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ.. وهذا استفهام إنكاري واستبعاد وتوبيخ وتقريع، فإنكم أيها المشركون تقرون بوجود آلهة أخرى مع الله، وإني لا أشهد شهادتكم، كما قال تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام ٦/ ١٥٠].
وأصرح بأن الإله هو إله واحد، وهو الله عزّ وجلّ، وإني أتبرأ مما تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرها.
فقه الحياة أو الأحكام:
كل من يملك شيئا فله حق التصرف المطلق فيه، وكل من أوجد شيئا فهو القادر على جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والله مالك السموات والأرض ومن فيهن

صفحة رقم 158

وهو الخالق لكل شيء، فهو وحده القادر على جلب النفع لخلقه ودفع الضرر عن مخلوقاته، وأنت يا محمد وكل إنسان في الوجود إن تنزل بك شدة من فقر أو مرض فلا رافع ولا صارف له إلا هو وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة، فهو الكامل القدرة على كل شيء من الخير والضر.
والله أيضا هو القاهر الغالب المهيمن على عباده، ولكنه قهر بحكمة في أمره، وخبرة تامة دقيقة بأعمال عباده.
والله أكبر وأعظم وأصدق شيء يشهد، فهو شاهد حق بانفراده بالربوبية، وقد أقام الأدلة والبراهين في النفس والكون على توحيده، فقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، وأودع في الفطرة الإنسانية ما يرشد إلى الإيمان بإله واحد متصف بصفات الكمال، وشهد العدول والعقلاء بوحدانيته، كما قال تعالى:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَالْمَلائِكَةُ، وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران ٣/ ١٨].
وشهد الله بصدق رسالة الرسول: بإخباره في قرآنه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح ٤٨/ ٢٩] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة ٢/ ١١٩].
وشهد الله أيضا بتأييده بالمعجزات التي من أهمها القرآن الكريم معجزة الإسلام الكبرى الدائمة إلى يوم القيامة. وشهدت الكتب السابقة له، وبشرت الرسل المتقدمون به، وذلك ما يزال قائما في كتب اليهود والنصارى.
كل هذه الشهادات المؤيدات تدل على أن الله شهيد بين نبيه محمد وبين المشركين على أنه بلغهم الرسالة، وأدى الأمانة، وصدق القول، ونصح للأمة، وعلى أن الله شهيد في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والأنداد.
والنّبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ القرآن والسنة لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ

صفحة رقم 159

بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
[المائدة ٥/ ٦٧].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» وقال مقاتل: «من بلغه القرآن من الجن والإنس، فهو نذير له».
ومما أوحي إلى النبي الذي ينذر به: أن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وأن القول بالشرك باطل مردود.
وقد اشتدت حملة القرآن على الشرك والمشركين، فوبخهم وقرعهم وأنكر عليهم في هذه الآية وغيرها اتخاذ آلهة أخرى مع الله، وإن فرض أنهم طالبوا النبي بالشهادة على شركهم، فإنه لا يشهد شهادتهم، أو لا يشهد معهم. وإذ ثبت إبطال الشرك، فالقول بالوحدانية هو الأمر المتعين، والقول بتوحيد الله والبراءة عن الشرك هو ما يقوله النبي والمؤمنون.
وقد دل الكلام: قُلْ: لا أَشْهَدُ.. الآية على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه:
أولها- قوله: قُلْ: لا أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء.
وثانيها- قوله: قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، والواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء.
وثالثها- قوله: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء «١».

(١) تفسير الرازي: ١٢/ ١٧٩.

صفحة رقم 160
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية