من الناس من صرف أتأويل قوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ)، أي: لست أنت من قتالهم في شيء؛ كأنه نهاه عن قتالهم في وقت، ثم أذن له بعد ذلك، ثم نسخته آية السيف، وهذا بعيد.
ويحتمل: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، أي: لست من دينهم في شيء؛ لأن دينهم كان تقليدًا لآبائهم، ودينك دين بالحجج والبراهين؛ فلست منهم، أي: من دينهم في شيء.
ويحتمل: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، أي: لا تسأل أنت عن دينهم ولا تحاسب على ذلك؛ كقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية.
أو يخرج على إياس أُولَئِكَ الكفرة عن عود رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم؛ كقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ).
يحتمل: أي الحكم فيهم إلى اللَّه؛ ليس إليك، هو الذي يحكم فيهم.
أو أن يكون أمرهم إلى اللَّه في القتال، حتى يأذن لك بالقتال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
هو وعيد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
ليس في قوله: (فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) إيجاب الجزاء في السيئة، وفي قوله: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) إيجاب الجزاء؛ لأنه قال: فله كذا؛ فيه إيجاب الجزاء، وإنَّمَا إيجاب الجزاء في السيئة بقوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، وغيره من الآيات.
وقد ذكرنا أن إيجاب الجزاء والثواب في الحسنات والخيرات إفضالٌ وإحسان؛ لأنه قد سبق من اللَّه - تعالى - إلى كل أحد من النعم ما يكون منه تلك الخيرات جزاء لما أنعم عليه وشكرًا له، ولا جزاء للجازي إلا من جهة الإفضال والإكرام.
وأما جزاء السيئة فمما توجبه الحكمة؛ لما حرج الفعل منه مخرج الكفران لما أنعم
عليه؛ فيستوجب بالكفران العقوبة والجزاء على ذلك.
والثاني: أنه خرج الفعل منه في الخيرات والحسنات على موافقة خلقته وصورته وتقويمه وتسويته على ما خلقها اللَّه وأنشأها وبناها؛ فلم يخرج الفعل منه على خلاف ما هو بني عليه؛ فلم يستوجب به الجزاء.
وأما السيئات: فهي إخراجها على خلاف خلقتها وتقويمها وصرفها إلى غير الوجه الذي كانت خلقتها وتقويمها؛ فاستوجب بذلك العقوبة والجزاء عليها؛ لقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).
ليس هو على التحديد حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، إنما خرج - واللَّه أعلم - على التعظيم لذلك والإجلال؛ لأنه أخبر في النفقة التي تنفق في سبيل اللَّه أنها تزداد وتنمو إلى سبعمائة، ولا يجوز أن يكون في الحسنة التي جاء بها في التوحيد ما يبلغ إلى ما ذكر، وإذا جاء بنفس ذلك التوحيد لا يبلغ ذلك أو يقصر عن ذلك، ولكنها - واللَّه أعلم - على التعظيم له، أو على التمثيل؛ كقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، ذكر هذا؛ لما لا شيء عند الخلق أوسع منها، وكقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)، ومثله هو على التمثيل؛ خرج لعظيم ما قالوا في اللَّه، ليس على أنها تنشق أو تنفطر؛ فعلى ذلك الأول أنه يخرج لما ذكرنا، لا على التحديد له والوقف.
ثم قوله: من جاء بالحسنة فله كذا، ومن جاء بالسيئة فله كذا: ذكر مجيء الحسنة ومجيء السيئة، ولم يقل: من عمل بالحسنة فله كذا، ومن عمل بالسيئة؛ ليعلم أن النظر إلى ما ختم به وقبض عليه؛ فكأنه قال: من ختم بالحسنة وقبض عليها فله كذا؛ لأنه قد يعمل بالحسنة، ثم يفسدها وينقضها بارتكاب ما ينقضه ويفسده من الشرك وغيره؛ على ما روي: " الأعمال بالخواتيم ".
ثم اختلف في قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها بعد التوحيد، ومن جاء بالسيئة بعد التوحيد فلا يجزي إلا مثلها.
وقال بعض أهل التأويل: من جاء بالحسنة يعني بالتوحيد فله عشر أمثالها، لكنه ليس على التحديد لما ذكرنا، ولكن على التعظيم له والقدر عند اللَّه، أو على التمثيل.
ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها يعني: الشرك، لا يجزى إلا مثله. فكان التخليد في النار مثل الشرك؛ لأن الشرك أعظم السيئات.
وفي الآية دلالة أن المثل قد يكون من غير نوعه؛ حيث أوجب في الحسنة من الثواب عشر أمثالها ومن السيئة مثلها، وليس واحد منهما من نوع الأصل والعمل الذي يثاب عليه.
وقيل: من جاء بالحسنة في الآخرة: بالتوحيد، فله عشر أمثالها، في الأضعاف. ومن جاء بالسيئة في الآخرة، يعني: الشرك فلا يجزى إلا مثلها في العظم؛ فجزاء الشرك النار؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، والنار أعظم العقوبة، وذلك كقوله (جَزَآءً وِفَاقًا) أي: وفاق العمل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُم لَا يُظْلَمُونَ) جميعًا لا يزاد على المثل ولا ينقص مما ذكر.