
وروى العوفي عن ابن عباس في الآية أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد ﷺ فتفرقوا. وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. وآخر على الخوارج. وأسندوا في ذلك حديثا رفعوه.
قال ابن كثير: وإسناد ذلك لا يصحّ. ثم قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له. فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله ﷺ مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية [الشورى: ١٣]. وفي الحديث «١» نحن معاشر الأنبياء أولاد علّات. ديننا واحد. فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء. والرسل برءاء منها كما قال الله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ثم قال: وقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج: ١٧]. الآية.
انتهى.
وقد أخرج أبو داود «٢» عن معاوية قال: قام فينا رسول الله ﷺ فقال: ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة. وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين. اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة. ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي.
ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة.
فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، حديث ١٦١٧ ونصه: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «أنا أولى الناس بابن مريم. والأنبياء أولاد علّات. ليس بيني وبينه نبيّ»
. (٢) أخرجه أبو داود في: السنّة، ١- باب شرح السنة، حديث رقم ٤٥٩٧. [.....]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها يعني عشر حسنات أمثالها في الحسن.
قال (المهايمي) كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته، لا قيمة العنقود. انتهى. والعشر أقل ما وعد من الأضعاف. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة وبغير حساب. ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي: بالأعمال السيئة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها في القبح.
قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره. كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله. ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية.
انتهى.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب.
لطيفة:
قال القاشانيّ في قوله تعالى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها: هذا أقل درجات الثواب.
وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس. فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس. فينحط إليه بالضرورة. فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل. فإنه يزيد به صاحبه ويتنوّر استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق. فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله. كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة:
٢٦١]، وأن العقاب من باب العدل إذ العدل يقتضي المساواة. ومن فعل بالنفس، إذا لم يعف عنه، يجازي بالنفس سواء. انتهى.
تنبيه:
وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية.
فروى الإمام أحمد «١» عن ابن عباس أن

رسول الله ﷺ قال، فيما يروي عن ربه تعالى: إن ربكم تبارك وتعالى رحيم. من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك. ورواه البخاريّ «١» ومسلم «٢» والنسائيّ.
وروى الإمام «٣» أحمد ومسلم «٤» عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة.
وروى الشيخان «٥» عن أبي هريرة. أن رسول الله ﷺ قال: يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة. لفظ البخاري.
وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام
. وذلك لأن الله تعالى قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها
وروى «٦» الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله. ورواه النسائي
والترمذي وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، اليوم بعشرة أيام.
(٢) أخرجه مسلم في: ١- كتاب الإيمان، حديث رقم ٢٠٧.
(٣) أخرجه في المسند ٥/ ١٤٨.
(٤)
أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث ٢٢، ونصه: عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر. ومن تقرّب مني شبرا، تقربت منه ذراعا. ومن تقرب مني ذراعا، تقرّبت منه باعا. ومن أتاني يمشي، أتيته هرولة. ومن لقيني بقراب الأرض (قراب الأرض ما يقارب ملأها) خطيئة، لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة»
. (٥) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٣٥- باب قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، حديث ٢٦٠١.
وأخرج في معناه مسلم في: الإيمان حديث ٢٠٥.
(٦) أخرجه في المسند ٥/ ١٤٦.