الثالث- وعيد الكفار وتهديدهم وإنذارهم بإنزال العذاب عليهم إذا لم يؤمنوا.
عاقبة الاختلاف في الدين
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ باختلافهم فيه، فأخذوا بعضه وتركوا بعضه. وفي قراءة:
فارقوا: أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وهم اليهود والنصارى. وَكانُوا شِيَعاً فرقا في ذلك.
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي فلا تتعرض لهم. إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ يتولاه. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ يخبرهم في الآخرة عن أفعالهم، فيجازيهم عليها.
المناسبة:
بعد أن أوعد الله الكفار وأنذرهم بسوء العذاب، وبما ينتظر من الحوادث الرهيبة في آخر الزمان، حذّر الله المؤمنين من التفرق في الدين، كما يفعل أهل البدع والشبهات، وحث على توحيد كلمة المسلمين.
التفسير والبيان:
روى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة.
وهذا ما قاله مجاهد. وقال أبو أمامة في قوله: وَكانُوا شِيَعاً هم الخوارج.
وقيل عن جماعة (قتادة والضحاك والسدي) : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى إذ فرقوا دين إبراهيم وموسى وعيسى، فجعلوه أديانا مختلفة ومذاهب شتى.
وقيل: الآية عامّة في جميع الكفار، قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له «١». وهذا ما صوبه بعض المحدثين، مثل صاحب تفسير المنار «٢»، فقال: والصواب هو الجمع بين الرأيين، فإن الله تعالى، بعد أن أقام حجج الإسلام في هذه السورة، وأبطل شبهات الشرك، ذكر أهل الكتاب وشرعهم وأمر المستجيبين لدعوة الإسلام بالوحدة وعدم التفرق، كما تفرق من قبلهم، كما جاء في سورة آل عمران: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [١٠٥].
والمعنى: إن الذين فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض وأخذوا به، وتركوا بعضه الآخر، وتأولوا نصوصه على وفق أهوائهم، وصاروا فرقا، كل فرقة تأخذ برأي وتتعصب لمذهب، لا تتعرض لهم يا محمد ودعهم وشأنهم ولا تقاتلهم، وإنما عليك تبليغ الرسالة، ومناصرة شعائر الدين الحق، أنت بريء منهم ومن أفعالهم، وبعيد من أقوالهم ومذاهبهم، والله يتولى أمرهم وحسابهم، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم على تجزئة الدين. قال الرازي: المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وألا يتفرقوا في الدين، ولا يبتدعوا البدع «٣».
وقد استنكر الله تعالى في موضع آخر هذه التجزئة، فقال عن أهل الكتاب: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة ٢/ ٨٥].
وحذر النّبي صلّى الله عليه وسلّم من تفرق المسلمين،
روى أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة (أي فرقة) وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي
(٢) راجع ٨/ ٢١٤
(٣) تفسير الرازي: ١٤/ ٨
الجماعة» «١»
وروى أبو داود، والترمذي- واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين، والنصارى مثل ذلك. وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» «٢»
فيكون المراد من قوله: فَرَّقُوا دِينَهُمْ اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وقيل: فرقوا دينهم، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وأسباب الاختلاف والتفرق كثيرة، من أهمها: حب السيطرة والسلطة، والتعصب للجنس والقوم، أو للرأي والهوى، والإصغاء لدسائس أعداء الدين ومكائدهم، والجهل والتخلف، واتباع الآخرين في العادات والتقاليد، وتخلي بعض الدول أو أكثرها عن الدين في الفكر والاعتقاد، والسياسة والمنهج، والنظام والقانون.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن شرع الله واحد وكل لا يتجزأ، فلا يصح أخذ بعضه، وترك بعضه، وتعطيل حكم أو ادعاء عدم صلاحيته للعصر، فمن اعتقد ذلك فهو كافر.
والتفرق في الدين، والابتداع واتباع الشبهات والشهوات خطر عظيم وجرم كبير وضلال مبين.
وما على الأمة إلا جمع كلمتها، وتوحيد رأيها، والحذر من الانزلاق في مهاوي الابتداع مما لم يأذن به الله ورسوله في العبادة والأخلاق والتشريع.
وإن هجر تشريع الله بدأ بالتخلي عن بعض أحكامه تدريجيا، حتى أصبح منعزلا عن الحياة.
(٢) المرجع السابق: ١٠/ ٤٠٨