وَالْآيَةُ الْمُفَسَّرَةُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٢: ٢٩، ٣٠).
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
قَدْ كَانَتْ خَاتِمَةُ مَا وَصَّى اللهُ تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ رُسُلِهِ آنِفًا الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّهْيَ عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ مِنَ السُّبُلِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ تِلْكَ الْوَصَايَا شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ الْمُشَابِهَةَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَوَصَايَاهُ، بِمَا عُلِمَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ أَكْمَلُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَكْمُلُ بِخَوَاتِيمِهَا. وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالْمُقَارِنَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْقُرْآنِ، مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتِعْدَادًا لِلْهِدَايَةِ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَسَى أَنْ يَثُوبَ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ إِلَى رَشَادِهِمْ، وَيُفَكِّرَ الْمُعَانِدُونَ فِي عَاقِبَةِ عِنَادِهِمْ، وَتَلَا ذَلِكَ تَذْكِيرُهُ لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ بِمَا يُنْتَظَرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِكُلٍّ مِنَ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ، وَلَمَّا تَمَّتْ بِذَلِكَ الْحُجَّةُ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ، ذَكَّرَ - تَعَالَى جَدُّهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا هِيَ عُرْضَةٌ لَهُ بِحَسَبِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنْ إِضَاعَةِ الدِّينِ بَعْدَ الِاهْتِدَاءِ بِهِ، بِمِثْلِ مَا أَضَاعَهُ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ بِالْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ وَالْبِدَعِ الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَحْزَابًا وَشِيَعًا، تَتَعَصَّبُ كُلٌّ مِنْهَا لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ إِمَامٍ فَيَضِيعُ الْعِلْمُ وَتَنْفَصِمُ عُرْوَةُ الْوَحْدَةِ
لِلْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أُخُوَّةِ الْإِيمَانِ فَتُصْبِحُ أُمَمًا مُتَعَادِيَةً لَيْسَ لَهَا مَرْجِعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ يَجْمَعُ كَلِمَتَهَا فَيَحِلُّ بِهَا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي تَفَرَّقَتْ قَبْلَهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) مِنَ التَّفْرِيقِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَجَعْلُهُ فِرَقًا وَأَبْعَاضًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فَارَقُوا) مِنَ الْمُفَارَقَةِ لِلشَّيْءِ وَهُوَ تَرْكُهُ وَالِانْفِصَالُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ رُوِيَتْ عَنْ عَلَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَهِيَ تُفِيدُ أَنَّ تَفْرِيقَ الدِّينِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ مُفَارَقَتَهُ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ. فَمِنَ التَّفْرِيقِ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ، وَالْكُفْرُ بِالْبَعْضِ كَالْكُفْرِ بِالْجَمِيعِ مُفَارَقَةً لِلدَّيْنِ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (٢: ٨٥) الْآيَةَ وَمِثْلُهُ الْإِيمَانُ بِبَعْضِ الرُّسُلِ دُونَ بَعْضٍ. عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تُقِيمُ الدِّينَ لِأَصْلِ الدِّينِ بِجُحُودِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ أَوْ تَأْوِيلِ هِدَايَتِهِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ.
ذَهَبَ بَعْضُ مُفَسِّرِي السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ فَرَّقُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى فَجَعَلُوهُ أَدْيَانًا مُخْتَلِفَةً، وَكُلٌّ مِنْهَا مَذَاهِبُ لَهَا شِيَعٌ مُخْتَلِفَةٌ يَتَعَادُونَ وَيَتَقَاتَلُونَ فِيهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي مَزَّقَتْ وَحْدَةَ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَحْدَثَتْ مِنَ النِّحَلِ وَالْمَذَاهِبِ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌّ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ أَقَامَ حُجَجَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَأَبْطَلَ شُبَهَاتِ الشِّرْكِ ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَشَرْعَهُمْ. وَأَمَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ كَمَا تَفَرَّقَ مَنْ قَبْلَهُمْ وَقَدْ فَصَّلَ هَذَا بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِصَامِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٣: ١٠٥) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَهُوَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُمُ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ أَحَقُّ بِبَرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّحْذِيرِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَكْثَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ) الْآيَةَ. قَالَ هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. بَلْ أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ صَاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً إِلَّا أَصْحَابَ الْبِدَعِ وَأَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. أَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنِّي بُرَآءُ " وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا بِدْعَتَهُمْ وَظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فَرَجَعُوا وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ. اهـ. مُلَخَّصًا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ - وَثُمَّ آثَارٌرُوِيَتْ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ بِأَنَّهُمُ الْحَرُورِيَّةُ أَوِ الْخَوَارِجُ مُطْلَقًا، وَمُرَادُ قَائِلِيهَا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ لَا أَنَّ الْآيَةَ فِيهِمْ وَحْدَهُمْ. وَجَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ لِلْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ الشَّاطِبِيِّ مَا نَصُّهُ:
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهَا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ، (قَالَ الشَّاطِبِيُّ) يُرِيدُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ
الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ. فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَوْمًا يَخْطُبُنَا فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جُعِلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ إِحْدَى حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دَيْنَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهُ يَعْنِي بُقُولِهِ " أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أُمَّ سَلَمَةَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ حَاجَّةً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ هُمُ الْخَوَارِجُ.
قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتُخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا اهـ. مَا أَوْرَدَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي (ج١) وَأَعَادَ الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي بَحْثِ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ (ج٣) فَقَالَ: إِنَّ لَفْظَ الدِّينِ فِيهَا يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَالَ، فَمَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِهَا تَدُلُّ عَلَى شُمُولِهَا لِلتَّفَرُّقِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَحُكُومَتِهِ وَتَوَلِّي أَهْلِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، فَعَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ، كَعَصَبِيَّةِ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالتُّرْكِيِّ وَالْفَارِسِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَالْمَلَاوِيِّ إِلَخْ بِحَيْثُ يُعَادِي الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّوْرَةِ عَلَى عُثْمَانَ - وَقَدْ خَرَّجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَقْتَلِهِ - كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: رَأَيْتُ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ ذِرَاعَ امْرَأَةٍ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْ بَيْنِ الْحَائِطِ وَالسِّتْرِ وَهِيَ تُنَادِي: أَلَا إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيئَانِ مِنَ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ فَكَانُوا شِيَعًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَاحِدَةٌ.
هَذَا وَإِنَّ قِرَاءَةَ (فَرَّقُوا) وَحْدَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ تَفَرُّقٍ فِي الدِّينِ مُفَارَقَةٌ لَهُ وَرِدَّةٌ عَنْهُ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِرَاءَةُ (فَارَقُوا)، فَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْمُفَارَقَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠: ٣١، ٣٢) وَفِيهَا الْقِرَاءَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: (مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُرَادُ بِجَعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْهُمْ تَحْذِيرُ أُمَّتِهِ مِنْ مِثْلِ فِعْلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ بِالْأَوْلَى لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَأَفْعَالِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ فَإِذَا تَلَبَّسَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ فِيهِ كَحُكْمِ مَنْ قَبْلَهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ وَالنِّفَاقَ وَالْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَضِمْنَ لَهُمْ جَنَّتَهُ وَرِضْوَانَهُ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،
أَوْ إِلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ، وَهَذَا هَدْمٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةِ الْمُهْتَدِينَ بِهِمَا مِنْ خَيْرِ الْقُرُونِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى عَاقِبَةَ هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّقِينَ لِدِينِهِمْ بِقَوْلِهِ:
(إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أَيْ إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى وَحْدَهُ أَمْرَ جَزَائِهِمْ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِمْ وَالتَّفْرِيقِ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنْ ضَعْفِ الْمُتَفَرِّقِينَ، وَفَشَلِ الْمُتَنَازِعِينَ، وَتَسَلُّطِ الْأَقْوِيَاءِ عَلَيْهِمْ وَلُبْسِهِمْ شِيَعًا يُذِيقُ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، بِمَا تُثِيرُهُ عَدَاوَةُ التَّفَرُّقِ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاتُلِ وَالْحُرُوبِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) (٢: ٢٥٣) إِلَخْ وَقَوْلِهِ: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (٥: ١٤) وَقَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) (٦: ٦٥) إِلَخْ وَبَعْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا يَبْعَثُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عِنْدَ الْحِسَابِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ بِتَفْرِيقِ الدِّينِ، أَوْ مُفَارَقَتِهِ اتِّبَاعًا لِلْأَهْوَاءِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فِي النَّارِ.
تَطْبِيقٌ أَوْ طِبَاقٌ فِي أَسْبَابِ افْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ. لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ:
(١) السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ.
(٢) عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ.
(٣) عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ.
(٤) الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ.
وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ.
فَالْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ، وَآرَاءُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَشُئُونِ الْمَعِيشَةِ وَأَحْوَالِ الِاجْتِمَاعِ. وَالدِّينُ فِي عَقَائِدِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ مُوحًى مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْمَدَنِيَّةِ جَمْعُ قُلُوبِ الْأَفْرَادِ وَالشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ بِأَقْوَى الرَّوَابِطِ وَأَوْثَقِ الْعُرَى الثَّابِتَةِ. وَالرَّأْيُ يُفَرِّقُهَا ; إِذْ قَلَّمَا يَتَّفِقُ شَخْصَانِ مُسْتَقِلَّانِ فِيهِ، فَأَنَّى تَتَّفِقُ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ وَاجْتِمَاعُ الْكَثِيرِينَ بِالتَّقْلِيدِ يَسْتَلْزِمُ تَفَرُّقًا
شَرًّا مِنَ التَّفَرُّقِ فِي الرَّأْيِ عَنْ دَلِيلٍ ; لِأَنَّهُ تَفَرُّقُ جَهْلٍ لَا مَطْمَعَ فِي تَلَافِي ضَرَرِهِ إِلَّا بِزَوَالِهِ.
تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي تَفَرُّقِ الْمَذَاهِبِ وَخَصُّوهُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُونَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَالتَّحْقِيقُ الْعُمُومُ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَأَنَّهُمْ تَعَادَوْا فِي الدِّينِ تَعَادِيًا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِهِ وَضَعْفِ أَهْلِهِ وَقُوَّةِ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُمْ دُونَ ضَرَرِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْأُصُولِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ مُتَعَصِّبِيهِمْ أَدْخَلُوا خِلَافَ الْأُصُولِ فِي الْفُرُوعِ فَجَعَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ التَّزَوُّجَ بِالشَّافِعِيَّةِ مَحَلَّ نَظَرٍ ; لِأَنَّهَا تَشُكُّ فِي إِيمَانِهَا. وَعَلَّلَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ بِقِيَاسِهَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ، وَمُرَادُهُمْ بِشَكِّ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ جَمِيعِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ فِي إِيمَانِهِمْ ; قَوْلُهُمُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ! وَلَوْ سَلَكَ الْخَلَفُ فِي الدِّينِ مَسْلَكَ السَّلَفِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى فَهْمِهِمَا بِكُلِّ عَالِمٍ ثِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ لِعَالِمٍ مُعَيَّنٍ، لَمَا وَقَعُوا فِي هَذَا الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْجَهْلِ بِهِمَا وَهَجْرِهِمَا، وَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ يُزِيلُهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ فَلَا يُوجِبُ تَفَرُّقًا.
وَقَدْ بَدَأَ أَصْحَابُ كُتُبِ الْمَقَالَاتِ الْكَلَامِيَّةِ بِحْثَ التَّفَرُّقِ وَالشِّيَعِ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي ذَلِكَ وَهُوَ " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: " إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ لِصَاحِبِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ بِصَاحِبِهِ) لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ " أَيِ الْكَلَبُ وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ الدَّاءُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْكِلَابِ وَلِمَنْ عَضَّهُ الْمُصَابُ بِهِ مِنْهَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ
عَمْرٍو وَأَوَّلُهُ " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي كَمَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.. وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً " قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَعَبَّرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ بِلَفْظِ " تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ " وَقَفَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ بِمَا رُوِيَ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، وَقَدْ حَقَّقْنَا مَسْأَلَةَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّاطِبِيُّ الْوَجْهَ الْخَامِسَ مِمَّا وَرَدَ فِي النَّقْلِ مِنْ ذَمِّ الْبِدَعِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ غَيْرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ; إِذِ الْبِدَعُ كُلُّهَا كَذَلِكَ. كَمَا وَعَدَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا، فَذَكَرَ حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَعِدَّةَ آثَارٍ بِمَعْنَاهُ وَرَجَّحَ شُمُولَ ذَلِكَ لِمَا كَانَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا كَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ آثَارِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ إِلَّا إِنْحَاءَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. وَمِنْ أَحْسَنِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ ; فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَكَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ اهـ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهَذَا الرَّأْيَ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ دُونَ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِهَا الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْقَضَاءِ ; فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مَذْهَبِهِ مُرَاعَاةَ الْمَصَالِحِ فِي هَذَا كَمَا بَيَّنَهُ الشَّاطِبِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ (الِاعْتِصَامِ) أَحْسَنَ بَيَانٍ. وَقَدْ قَالَ هَاهُنَا: إِنَّ الْآثَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةً بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ. (أَقُولُ) : وَهَذَا مَذْهَبُنَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَقَدْ حَقَّقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنَ الِاعْتِصَامِ (ج٣) أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (١١: ١١٨، ١١٩) وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ هِيَ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لَهُمْ فَيَكُونُونَ شِيَعًا وَأَحْزَابًا يَتَفَرَّقُونَ وَيَتَعَادَوْنَ فِي ذَلِكَ فَهُمْ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ،
وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ كَعُذْرِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ قَالُوا وَعَمِلُوا بِمَا ظَهَرَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُونُوا يُجِيزُونَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ صِحَّةُ دَلِيلِهِمْ فَصَارَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنَ الْحُكْمِ. فَهَلْ يُجِيزُونَ لِشِيعَةٍ أَوْ حِزْبٍ أَنْ يَتَعَصَّبَ وَيُعَادِيَ وَيُخَاصِمَ وَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا لِظُنُونِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَرْجِعُونَ عَنْهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهَا؟ !.
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ حَدِيثَ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا، وَزَادَ رِوَايَةً رَآهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ جَعَلَ فِيهَا الْفِرَقَ ٨٢ - إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّقْلُ غَلَطًا مِنَ النُّسَّاخِ - وَقَالَ: كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَسَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: " الْجَمَاعَةُ ". ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنْ حَقِيقَةِ الِافْتِرَاقِ وَأَسْبَابِهِ وَاسْتِشْكَالِ كُفْرِ هَذِهِ الْفِرَقِ مَا عَدَا وَاحِدَةً مِنْهَا. قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُكَفِّرُونَ كُلَّ مُبْتَدِعٍ بَلْ يَقُولُونَ بِإِيمَانِ أَكْثَرِ الطَّوَائِفِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا الْفِرَقَ، وَذَكَرَ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالًا فِي الْحَدِيثِ وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَلَا سِيَّمَا آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَآيَةِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) (١٥٣) الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ رَجَّحَ مَا كُنَّا نَرَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي النَّارِ مَا عَدَا الْجَمَاعَةَ الْمُلْتَزِمَةَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كُلَّهَا خَالِدَةٌ خُلُودَ الْكُفَّارِ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، وَمِنْهَا مَنْ يُعَذَّبُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَقَطْ، وَلَا يَخْلُدُ فِي الْعَذَابِ خُلُودَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ أَوِ الْجَاحِدِينَ لِبَعْضِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ ثُمَّ عَقَدَ فِي هَذَا الْبَابِ مَسَائِلَ فِي أَبْحَاثٍ مُهِمَّةٍ كَبَحْثِ عَدِّ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ وَعَدَمِهِ، وَمَا قِيلَ فِي عَدَدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْسُنُ بِطَالِبِ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَالْمُشْكِلَاتِ فِي الْحَدِيثِ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ (مُحَمَّدِ بْنِ أَسْعَدَ الصَّدِيقِيِّ) لِلْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ، وَعَدَّ مَا أَطَالَ بِهِ إِيجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ. قَالَ فِي أَوَّلِهِ:
لَا بُدَّ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مُوجَزٍ فَاسْمَعْ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ أَفَادَنَا أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ فِرَقٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا الَّتِي عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ. وَكَوْنُ الْأُمَّةِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا افْتِرَاقٌ عَلَى فِرَقٍ شَتَّى تَبْلُغُ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا تَبْلُغُهُ ثَابِتٌ قَدْ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ وَكَوْنُ النَّاجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةً أَيْضًا حَقٌّ لَا كَلَامَ فِيهِ فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، هُوَ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ، فَإِنَّ مَا خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ فَهُوَ رَدٌّ، وَأَمَّا تَعْيِينُ أَيِّ
فِرْقَةٍ هِيَ النَّاجِيَةَ أَيِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى مَا (كَانَ) النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِي إِلَى الْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ يُذْعِنُ لِنَبِيِّنَا بِالرِّسَالَةِ تَجْعَلُ نَفْسَهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّ مِيرْبَاقِرَ الدَّامَادْ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرْقِ الْمَذْكُورَةِ
فِي الْحَدِيثِ هِيَ فِرَقُ الشِّيعَةِ وَأَنَّ النَّاجِيَةَ مِنْهُمْ فِرْقَةُ الْإِمَامِيَّةِ، وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْفِرَقِ فَجَعَلَهُمْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ فَكُلٌّ يَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ وَيُقِيمُ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً:
ثُمَّ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَمْثِلَةً مِمَّا يَقُولُهُ فَلَاسِفَةُ الْمُسْلِمِينَ وَصُوفِيَّتُهُمْ وَأَشْهَرُ فِرَقِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ غَيْرَهُمْ وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِجَهْلِ أَكْثَرِهِمْ بِالنُّقُولِ. وَاعْتِمَادِهِمْ عَلَى النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَعْقُولَ. ثُمَّ قَالَ:
" فَكُلٌّ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مَتَى رَأَتْ مِنَ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ مَا اعْتَقَدَتْ أَخَذَتْ فِي تَأْوِيلِهِ
وَإِرْجَاعِهِ إِلَى بَقِيَّةِ النُّصُوصِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا، فَكُلٌّ بَرْهَنَ عَلَى أَنَّهُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ وَكُلٌّ مُطْمَئِنٌّ بِمَا لَدَيْهِ وَيُنَادِي نِدَاءَ الْمُحَقِّقِ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ. فَإِنَّ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ قَدْ جَاءَتْ وَانْقَرَضَتْ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ الْآنَ مِنْ غَيْرِ النَّاجِيَةِ، أَوْ أَنَّ الْفِرَقَ الْمُرَادَةَ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ لَمْ تَبْلُغِ الْآنَ الْعَدَدَ. أَوْ أَنَّ النَّاجِيَةَ إِلَى الْآنَ مَا وُجِدَتْ وَسَتُوجَدُ. أَوْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِرَقِ نَاجِيَةٌ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ مُطَابِقٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ لَنَا عَنْهُمْ كَالْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ عَنْهُمْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ. وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْفِرَقِ سَتُوجَدُ مِنْ بَعْدُ أَوْ وُجِدَ مِنْهَا بَعْضٌ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ عُلِمَ كَمَنْ يَدَّعِي أُلُوهِيَّةَ عَلِيٍّ كَفِرْقَةِ النُّصَيْرِيَّةِ. وَمُوجَبُ هَذَا التَّرَدُّدِ أَنَّهُ مَا مِنْ فِرْقَةٍ إِلَّا وَيَجِدُهَا النَّاظِرُ فِيهَا مُعَضَّدَةً بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ وَالنُّصُوصُ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ مِنَ الْأَطْرَافِ. وَمِمَّا يَسُرُّنِي مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ.
وَنَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنَ الْأُسْتَاذِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَهْدِ تَأْلِيفِهِ لِهَذِهِ الْحَاشِيَةِ أَيَّامَ اشْتِغَالِهِ بِعِلْمِ الْكَلَامِ فِي الْأَزْهَرِ مُمْتَازًا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَعَدَمِ التَّقْلِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّعَصُّبِ، مَعَ الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَنْقُصُهُ سَعَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى كُتُبِ الْحَدِيثِ وَإِذًا لَجَزَمَ بِأَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَعُلَمَاءُ الْأَثَرِ، الْمُهْتَدُونَ بِهَدْيِ السَّلَفِ، وَأَنَّهُمْ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخَرِينَ وَلَا تَزَالُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ. سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ ضَرَّ وَمَنْ نَفَعَ وَلَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّمُونَ كَلَامَ اللهِ وَكَلَامَ رَسُولِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُؤَوِّلُونَ شَيْئًا مِنْهُمَا لِيُوَافِقَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ أَوْ يُؤَيِّدَ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى تِلْكَ الْمَذَاهِبِ قَدْ وَصَلَ بِاجْتِهَادِهِ إِلَى الْحَقِّ فَصَارَ مِنْهُمْ وَإِذًا لَمَا سَرَّهُ حَدِيثُ أَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ رِوَايَةٌ. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَوَغَّلَ فِي مَذَاهِبِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ جَمِيعًا فَهَدَاهُ اللهُ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا. وَالرُّجُوعُ عَمَّا خَالَفَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ تَدْرِيجًا. وَإِنَّنَا نَرَاهُ هُنَا قَدْ أَوْرَدَ عَلَى تَحْقِيقِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ إِشْكَالَاتٍ. (خَامِسُهَا)
إِجْمَاعُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَكَوْنِهِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ الَّتِي تَوَاضَعَ عَلَيْهَا أَئِمَّةُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا هِيَ الْحَقُّ الْوَاقِعُ، وَعَدَّ هَذَا تَعَصُّبًا مِنْ أَتْبَاعِ كُلِّ رَئِيسٍ وَأَخْذًا بِأَسْبَابِ الْعَنَتِ. ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ:
" الْحَقُّ الَّذِي يُرْشِدُ إِلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاظِرُ الْمُتَدَيِّنُ إِلَى إِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ عَلَى إِثْبَاتِ صَانِعٍ وَاجِبِ الْوُجُودِ، ثُمَّ مِنْهُ إِلَى إِثْبَاتِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ يَأْخُذُ كُلَّ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ بِدُونِ فَحْصٍ فِيمَا تَكِنُّهُ الْأَلْفَاظُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ طَرِيقَ التَّحْقِيقِ فِي تَأْسِيسِ جَمِيعِ عَقَائِدِهِ بِالْبَرَاهِينِ الصَّحِيحَةِ، كَانَ مَا أَدَّتْ إِلَيْهِ مَا كَانَ، لَكِنْ بِغَايَةِ التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ إِذَا فَاءَ مِنْ فِكْرِهِ إِلَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ فَوَجَدَهُ يُظَاهِرُهُ مُلَائِمًا لِمَا حَقَّقَهُ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَلْيَطْرُقْ عَنِ التَّأْوِيلِ وَيَقُولُ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (٣: ٧) فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مُرَادَ اللهِ وَنَبِيِّهِ إِلَّا اللهُ وَنَبِيُّهُ، فَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ يَكُونُ نَسْجُهُ فَيَبُوءُ مِنَ اللهِ بِرِضْوَانٍ حَيْثُ أَسَّسَ عَقَائِدَهُ عَلَى السَّدِيدِ مِنَ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتَقْبَلَ الْأَخْبَارَ الْإِلَهِيَّةَ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَتَنَاوَلَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ التَّأْوِيلَ لِغَرَضٍ كَدَفْعِ مُعَانِدٍ، أَوْ إِقْنَاعِ جَاحِدٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إِذَا سَلِمَ بُرْهَانُهُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّشْوِيشِ وَهَذَا هُوَ دَأْبُ مَشَايِخِنَا كَالشَّيْخِ الْأَشْعَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ مَاثَلَهُمْ، لَا يَأْخُذُونَ قَوْلًا حَتَّى يُسَدِّدُوهُ بِبَرَاهِينِهِمُ الْقَوِيَّةِ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِمْ، وَهَذَا هُوَ مَا يُعْنَى بِاسْمِ السُّنِّيِّ
وَالصُّوفِيِّ وَالْحَكِيمِ، وَكُلُّ مُتَحَزِّبٍ مُجَادِلٍ فَإِنَّمَا يَبْغِي الْعَنَتَ وَتَشْتِيتَ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَكُلُّ مُقَصِّرٍ فَعَلَيْهِ الْعَارُ وَالشَّنَارُ، فَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ، وَاحْذَرْ فَقَدْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، وَلَا بُدَّ فِي كَمَالِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ مِنْ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ التَّخَلِّي عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ تَكْمِيلُ قُوَّةِ النَّظَرِ وَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْعَدْلِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ; إِذْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْهِمَّةِ وَالسَّدَادِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ فِيمَا يَأْخُذُ وَيُعْطِي، فَهُوَ فِي النَّارِ أَوْ يَطْهُرُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ، وَسَالِكُ هَذَا الطَّرِيقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سُلُوكُهُ مِنْ قِبَلِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ أُولِي الْفَضْلِ مِنَ الرَّاشِدِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَذَلِكَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ الْمُتَوَسِّطُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ سَلَكَ
بِنَفْسِهِ مَدَارِجَ الْأَنْوَارِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَسْرَارِ حَتَّى جَلَسَ فِي حَيَاتِهِ هَذِهِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فَهُوَ الصُّوفِيُّ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى وَالْمَطْلُوبِ الْأَعْلَى، وَفِي هَذَا مَرَاتِبُ لَا تُحْصَى وَمَرَاقٍ لَا تُسْتَقْصَى، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ. فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَا النُّورِ فَلَهُ النَّجَاةُ وَالْحُبُورُ كَانَ مَنْ كَانَ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَلْنُمْسِكِ الْقَلَمَ حَيْثُ إِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِيجَازُ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَاسْلُكْ بِنَفْسِكَ طَرِيقَ السَّدَادِ وَانْظُرْ فِيمَا يَكُونُ لَكَ بِعَيْنِ الرَّشَادِ " اهـ.
بَدْءُ تَفَرُّقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَانَ أَوَّلُ خِلَافٍ نَجَمَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافَ عَلَى الْإِمَارَةِ، فَقَالَ بَعْضُ زُعَمَاءِ الْأَنْصَارِ لِلْمُهَاجِرِينَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَكَانَ بَعْضُ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَخَافَ عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بُعْدِ الرَّأْيِ وَالْحَزْمِ أَنْ يَحْدُثَ صَدْعٌ فِي بِنْيَةِ الْأُمَّةِ قَبْلَ دَفْنِ رَسُولِهَا، فَبَادَرَ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُنْكِرُ مَكَانَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَبَقًا وَعِلْمًا وَفَهْمَا وَنَصْرًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَبِعَهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَلَا ذَلِكَ عَلِيٌّ وَمَنْ كَانَ تَأَخَّرَ فَتَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمَنْ عَلَى رَأْيِهِمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْأَمْرِ لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ التَّفَرُّقِ الَّذِي بَرِئَ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ وَالِاتِّفَاقَ هُوَ سِيَاجُ الدِّينِ وَحِفَاظُهُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ مَا عَارَضَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ بَايَعُوا عُمَرَ وَعُثْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَذَلِكَ تَنَازَلَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِتَرْجِيحِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى غَيْرِهَا.
وَأَمَّا مُقَاوَمَةُ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ لِلْأُمَوِيِّينَ فَلِظُلْمِهِمْ وَجَعْلِهِمُ الْخِلَافَةَ مَغْنَمًا لَهُمْ وَإِرْثًا فِيهِمْ، وَمَغْرَمًا وَعَذَابًا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، فَهَدَمُوا بِذَلِكَ قَاعِدَةَ الْقُرْآنِ فِي الشُّورَى وَجَعَلُوا إِمَامَةَ الدِّينِ وَخِلَافَةَ النُّبُوَّةِ مُلْكًا عَضُوضًا - كَمَا أَنْبَأَتْ أَحَادِيثُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْإِمَامُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ إِذْ سُئِلَ عَنْ سَبَبِ مُوَالَاتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ جَدَّهُ الْأَعْلَى عَلِيًّا الْمُرْتَضَى أَوْلَى مِنْهُمَا بِالْخِلَافَةِ وَخُرُوجِهِ عَلَى هِشَامٍ الْأُمَوِيِّ ; إِذْ قَالَ لِسَائِلِهِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلَّاهُمَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، فَأَقَامَا الْحَقَّ
وَالْعَدْلَ فَتَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ الْأَعْلَى لِأَنَّهُمَا قَامَا بِمَا كَانَ هُوَ يَقُومُ بِهِ وَكَانَ هُوَ قَاضِيهُمَا وَمُسْتَشَارُهُمَا - فَهُوَ (أَيْ زَيْدٌ) يَتَوَلَّاهُمَا كَمَا تَوَلَّاهُمَا جَدُّهُ وَهِشَامٌ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَالْإِمَامُ زَيْدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُصْلِحِينَ الَّذِينَ يُلَقَّبُونَ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْفِدَائِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاوِمُونَ الظُّلْمَ بِالثَّوْرَاتِ عَلَى الْجَائِرِينَ الظَّالِمِينَ، إِلَى أَنْ يَثُلُّوا عُرُوشَهُمْ. وَيُرِيحُوا الْأُمَمَ مِنْ جَوْرِهِمْ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةِ تَعَارُضِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ فِي مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَأَهْلِهِ لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى فِتْنَةِ التَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ وَلَكِنَّهُمْ أَيَّدُوا الظَّالِمِينَ وَأَطَاعُوهُمْ بِشُبْهَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ حَتَّى ضَاعَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُهُ وَتَضَعْضَعَ كُلُّ مُلْكٍ لِأَهْلِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا تَحْكِيمَهَا وَتَطْبِيقَهَا.
وَقَدْ رَفَضَ غُلَاةُ الشِّيعَةِ الْإِمَامَ زَيْدًا إِذْ أَبَى قَبُولَ مَا اشْتَرَطُوهُ عَلَيْهِ لِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِذَلِكَ سُمُّوا الرَّافِضَةَ، وَلِمَاذَا اشْتَرَطُوا الْبَرَاءَةَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دُونَ عُثْمَانَ بَلْ دُونَ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ؟ ! إِنَّ أَكْثَرَ الشِّيعَةِ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ هَذَا وَلَوْ فَكَّرُوا فِيهِ لَعَرَفُوهُ وَعَرَفُوا بِمَعْرِفَتِهِ كَيْفَ جَرَفَهُمْ تَيَّارُ دَسَائِسِ الْمَجُوسِ أَصْحَابِ الْجَمْعِيَّاتِ السِّرِّيَّةِ الْعَامِلَةِ لِلِانْتِقَامِ لِلْمَجُوسِيَّةِ مِنَ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَطْفَأَ نَارَهَا وَثَلَّ عَرْشَ مُلْكِهَا عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، اللَّذَيْنِ كَانَا يُفَضِّلَانِ آلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آلِهِمَا، فَتِلْكَ الْجَمْعِيَّاتُ الْمَجُوسِيَّةُ بَثَّتْ دَسَائِسَهَا فِي الشِّيعَةِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِزَالَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِ الَّذِي بُنِيَ عَلَى أَسَاسِهِ مَجْدُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
لَمْ تُوجَدْ فِي الدُّنْيَا جَمْعِيَّاتٌ أَدَقُّ نِظَامًا وَأَنْفَذُ سِهَامًا مِنْ جَمْعِيَّاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَبَإٍ الْيَهُودِيُّ وَمَجُوسُ فَارِسَ لِإِفْسَادِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَإِزَالَةِ مُلْكِ دُعَاتِهِ الْعَرَبِ فَقَدْ رَاجَتْ دَسَائِسُهَا فِي شِيعَةِ آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمُلْكِ الْإِسْلَامِ، بَلْ رَاجَ بَعْضُهَا فِي سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ أَقْوَى فِي نَفْسِهِ فَبَيْنَمَا كَانَتْ تِلْكَ الدَّسَائِسُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا فِي الْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ كَانَ الْإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ فِي أُمَّةِ الْفُرْسِ النَّبِيلَةِ، وَكُتُبُ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ تُدَوَّنُ فِي مُدُنِهَا بِأَقْلَامِ أَبْنَاءِ فَارِسَ وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مِنَ الْعَرَبِ، وَتُنْشَرُ فِي مَشَارِقِ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا تُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ الْقَوِيمَ وَلُغَتَهُ، وَقَدْ صَارَ لِأُولَئِكَ الْبَاطِنِيَّةِ دَوْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ فِي مِصْرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَوْلَةٌ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ دَوْلَتُهُمْ فِي مِصْرَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا أَنْ تُعِيدَ
الْمَجُوسِيَّةَ وَتَجْعَلَ لَهَا مُلْكًا ; لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَ لَهَا ظَاهِرٌ هُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى مَذْهَبِ الشِّيعَةِ الَّذِي كَانَ مَذْهَبًا سِيَاسِيًّا فَصَارَ مَذْهَبًا دِينِيًّا، وَلَهَا بَاطِنٌ سِرِّيٌّ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا رُؤَسَاءُ الدُّعَاةِ - وَلَمَّا كَانَ الْمُنْتَحِلُونَ لَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَالْبَرْبَرِ جَاهِلِينَ بِأَصْلِهَا وَبِمَا وُضِعَتْ لَهُ - غَلَبَتِ الصِّبْغَةُ الدِّينِيَّةُ فِيهَا عَلَى الصِّبْغَةِ السِّيَاسِيَّةِ، وَكَانَ عَاقِبَةُ دَعَوْتِهَا أَنْ مَرَقَ بَعْضُ الشِّيعَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ، وَاتَّخَذُوا التَّعَالِيمَ الْبَاطِنِيَّةَ دِينًا يَدِينُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ وَيَعْبُدُونَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَتَأَوَّلُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَأَوُّلًا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى تِلْكَ التَّعَالِيمِ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ بَعْضِ آلِ الْبَيْتِ ثُمَّ الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ بَعْضِهِمْ هُوَ إِبْطَالُ دِينِ جَدِّهِمْ وَإِزَالَةُ مُلْكِهِ مِنْ آلِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ تَجَدَّدَ لَهَا دِينٌ جَدِيدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأُلُوهِيَّةِ رَجُلٍ مِنْ غَيْرِ آلِ الْبَيْتِ وَهُوَ الْبَهَاءُ الْإِيرَانِيُّ وَالِدُ " عَبَّاس عَبْد الْبَهَاءِ " - وَبَقِيَ سَائِرُ الشِّيعَةِ مُسْلِمِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَبِأَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ رُسُلِ اللهِ، وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَزَالُ يَغْلُو فِي آلِ الْبَيْتِ غُلُوًّا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِيهِ، وَيَطْعَنُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ بِذَلِكَ لِآلِ الْبَيْتِ، غَافِلًا عَنْ كَوْنِ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ كَانُوا أَوْلِيَاءَ وَأَنْصَارًا لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ هَذَا كَانَ تَقِيَّةً مِنْهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ فَلِمَاذَا لَا يَكُفُّونَ هُمْ عَنِ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّعْنِ فِيهِمَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ؟.
أَضْعَفُوا الْإِسْلَامَ بِهَذَا التَّفَرُّقِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ، وَجَعَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيئًا مِنْ أَهْلِهِ، وَكُلُّ شِيعَةٍ وَفِرْقَةٍ تَظُنُّ أَنَّهَا بِهَذَا التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ تَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَتُؤَيِّدُهُ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ ضَعُفَ مُلْكُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ، وَكَادَتِ الْإِفْرِنْجُ تَسْتَعْبِدُ الدُّوَلَ وَالْإِمَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ سُنِّيًّا وَمَا يُسَمَّى شِيعِيًّا إِمَامِيًّا وَمَا يُدْعَى شِيعِيًّا زَيْدِيًّا، وَنَحْمَدُ اللهَ أَنْ عَرَفَ جُمْهُورُهُمْ بِهَذَا الْخَطَرِ حَقِّيَّةَ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَرُّقَ كَانَ مِنْ فَسَادِ السِّيَاسَةِ، وَسَتَجْمَعُهُمُ السِّيَاسَةُ كَمَا فَرَّقَتْهُمُ السِّيَاسَةُ، إِلَّا مَنِ ارْتَدُّوا بِالْعَصَبِيَّةِ الْقَوْمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ.
ضَعْفُ الْمَذَاهِبِ وَالدِّينِ وَدَسَائِسُ الْأَجَانِبِ فِي الْمُسْلِمِينَ:
ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ نَفْسُهَا وَلَا سِيَّمَا فِي الْفُرُوعِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَعُدْ مِنْ وَسَائِلِ سَعَةِ الرِّزْقِ وَلَا عَرْضِ الْجَاهِ بِالْمَنَاصِبِ وَالْجُلُوسِ عَلَى مِنَصَّاتِ الْحُكْمِ - وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ لِذَلِكَ - وَيَضْعُفُ الدِّينُ نَفْسُهُ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِحَقِيقَتِهِ صَارَ
عَامًّا، وَصِنْفُ الْعُلَمَاءِ أَعْمَاهُمُ
التَّقْلِيدُ عَنِ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَالسَّيْرِ بِالْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ عَلَى مَا تَجَدَّدَ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ، وَمَا اسْتُهْدِفَتْ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ وَالْمَفَاسِدِ، حَتَّى اقْتَنَعَ حُكَّامُهَا الْجَاهِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ بِأَنَّ شَرِيعَتَهَا لَمْ تَعُدْ كَافِيَةً لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ، فَصَارُوا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِيمَا اشْتَرَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَوَانِينِ الَّتِي يَرَوْنَهَا مُوَافِقَةً لِعَادَاتِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوَافِقَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا فِي هَذَا التَّقْلِيدِ مِنَ الْمَفَاسِدِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، بَلْ حَسِبُوا بِجَهْلِهِمْ وَبِإِغْوَاءِ الطَّامِعِينَ فِيهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ بِهَذَا يَتَّفِصُّونَ مِنْ عِقَالِ الشَّرْعِ وَسَيْطَرَةِ رِجَالِهِ الْجَامِدِينَ، فَيَكُونُ أَمْرُ حُكُومَتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يَشَاءُونَ، وَيَكُونُونَ كَالدُّوَلِ الْأُورُوبِّيَّةِ فِي عِزَّتِهَا وَثَرْوَتِهَا، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ هَذَا الْإِغْوَاءِ أَنْ سَلَبَهُمْ أُولَئِكَ الْمُغْوُونَ مُلْكَهُمْ وَجَعَلُوهُمْ أَسْلِحَةً وَآلَاتٍ بِأَيْدِيهِمْ، يُذِلُّونَ بِهِمْ أُمَمَهُمْ وَشُعُوبَهُمْ، وَيَضْرِبُونَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَقْضُوا عَلَى اسْتِقْلَالِ مَمْلَكَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِهَا. أَوْ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا، وِفَاقًا لِمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ " وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَلَّا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَلَّا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ (سُلْطَتَهُمْ وَمُلْكَهُمْ) وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا " وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَارِيخِ اسْتِعْمَارِ الْأَجَانِبِ لِلْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ يَرَى مِصْدَاقَ هَذَا فِي غَرْبِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَشَرْقِهَا.
وَقَدِ اجْتَهَدَ أُولَئِكَ الطَّامِعُونَ الْمُغْوُونَ بِإِفْسَادِ أَفْكَارِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَقُلُوبِهَا، كَمَا اجْتَهَدُوا فِي دَسِّ الدَّسَائِسَ لِإِفْسَادِ سَلَاطِينِهَا وَأُمَرَائِهَا، لِئَلَّا تَرْجِعَ إِلَى هِدَايَةِ الْقُرْآنِ فَتَجْتَمِعَ كَلِمَتُهَا وَتَصْلُحَ حُكُومَتُهَا، فَتَكُونَ أُمَمًا عَزِيزَةً يَتَعَذَّرُ اسْتِعْبَادُهَا. فَبَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ الدِّينِ لِتَشْكِيكِهَا فِي الْقُرْآنِ وَالنُّبُوَّةِ وَاسْتِمَالَتِهَا إِلَى دِينِهِمُ الَّذِي قَلَّ مَنْ بَقِيَ لَهُ ثِقَةٌ بِهِ مِنْ سَاسَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَكِّكُهَا فِي أَصْلِ الدِّينِ، أَيْ وُجُودِ الْإِلَهِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ. كَمَا بَثُّوا فِيهَا دُعَاةَ السِّيَاسَةِ يُرَغِّبُونَهَا فِي قَطْعِ الرَّابِطَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَاسْتِبْدَالِ الرَّابِطَةِ الْجِنْسِيَّةِ أَوِ الْوَطَنِيَّةِ بِهَا. فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْفُرْسِ، ثُمَّ بَيْنَ التُّرْكِ وَبَيْنَ الْأَلْبَانِ وَالْعَرَبِ. بَلْ صَارَ أَهْلُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَضُمُّهُ رَابِطَةُ الدِّينِ وَرَابِطَةُ اللُّغَةِ وَرَابِطَةُ الْعَادَاتِ وَغَيْرُهَا يَتَعَادَى بِاسْمِ الْوَطَنِيَّةِ، فَيَعُدُّ الْمِصْرِيُّ
أَخَاهُ السُّورِيَّ وَالْحِجَازِيَّ دَخِيلًا فِي بِلَادِهِ.
فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّفَرُّقِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّفْرِيقِ لِلدِّينِ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ مِنَ الْمُفَارَقَةِ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ شَرُّ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ لِهِدَايَتِهِ فِي وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَأُخُوَّةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَحِفْظِهَا. غَيَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ بِفَسَادِ أُمَرَائِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَغَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمْ وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ، وَمَا ظَلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ أَنْ
أَنْذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ فَكَانُوا مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (١٨: ١٠٤)
بَيِّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي كِتَابِهِ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ - وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمُتَفَرِّقَةِ - وَأَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَكِنَّهُمْ هَجَرُوا الْكِتَابَ حَتَّى إِنَّ رِجَالَ الدِّينِ مِنْهُمْ تَرَكُوا إِرْشَادَ الْحُكَّامِ وَالْأُمَّةِ بِهِ، بَلِ اسْتَغْنَوْا عَنْ هِدَايَتِهِ بِتَقْلِيدِ شُيُوخِهِمْ. وَأَيَّدُوا الْحُكَّامَ وَأَقَرُّوهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَجْلِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ فَضَلَاتِ الرِّزْقِ وَمَظَاهِرِ الْجَاهِ.
الْإِصْلَاحُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْوَحْدَةِ:
وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَحْرِمِ الْأُمَّةَ مِنْ نَذِيرٍ يُجَدِّدُ هِدَايَةَ الرُّسُلِ، فَقَدْ بَعَثَ عَلَى رَأْسِ هَذَا الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ حَكِيمًا مِنْ سُلَالَةِ الْعِتْرَةِ النَّبَوِيَّةِ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ وَالرُّجُوعِ عَمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ مِنَ التَّفْرِقَةِ. وَشَدَّ أَزْرَهُ فِي ذَلِكَ مُرِيدٌ لَهُ تَخَرَّجَ بِهِ فَكَانَ أَفْصَحَ لِسَانًا وَأَوْضَحَ بَيَانًا. وَقَدِ اسْتَفَادَتِ الْأُمَّةُ مِنْ إِصْلَاحِ هَذَيْنِ الْحَكِيمَيْنِ وَمَنْ جَرَى عَلَى أَثَرِهِمَا مَا بَعَثَ فِيهَا الِاسْتِعْدَادَ لِلْوَحْدَةِ وَالدَّعَايَةِ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ لَا تَتَرَبَّى بِالْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا أَعَدَّتِ الْأَنْفُسَ لَهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ. وَلَا سِيَّمَا أَنْفُسِ أَهْلِ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ الْمَغْرُورِينَ بِمَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ حُثَالَةِ الْمُلْكِ وَبَقَايَا مَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ أَكْثَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَتْ مَغْرُورَةً بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ مُتَّكِلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهَا أَقْوَى دُوَلِهِمْ، وَهُمْ غَافِلُونَ كَشَعْبِهَا عَمَّا عَرَاهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُعَادُونَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحٍ، وَكَانَ السَّيِّدُ الْأَفْغَانِيُّ - وَهُوَ الْمُوقِظُ الْأَوَّلُ - يَقُولُ: إِنَّ انْكِسَارَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ الرُّوسِيَّةِ الْأَخِيرَةِ فِي عَهْدِهِ هُوَ الَّذِي أَعَدَّ الْمُسْلِمِينَ لِإِدْرَاكِ الْخَطَرِ الَّذِي يَحِيقُ بِهِمْ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ. وَقَالَ بَعْضُ أَذْكِيَاءِ رِجَالِهَا: إِنَّ انْتِصَارَ السُّلْطَانِ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَلَى الدَّوْلَةِ أَخَّرَ مَا نَرْجُو مِنَ الْإِصْلَاحِ سِنِينَ كَثِيرَةً. وَنَقُولُ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ مِنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ لَهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ قَدْ ظَلُّوا سَادِرِينَ فِي غُرُورِهِمْ جَامِحِينَ فِي غَيِّهِمْ. إِلَى أَنِ انْكَسَرَتْ هَذَا
الِانْكِسَارَ الْفَظِيعَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَاحْتَلَّ الْأَجَانِبُ الْمُنْتَصِرُونَ عَلَيْهَا عَاصِمَتَهَا الَّتِي كَانَتْ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ غُرُورِهَا (حَتَّى كُنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَكْبَرُ عَقَبَاتِ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِهَا وَاقْتَرَحْنَا عَلَيْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً اسْتِبْدَالَ عَاصِمَةٍ آسْيَوِيَّةٍ بِهَا) وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُمْ قَضَوْا عَلَيْهَا الْقَضَاءَ الْأَخِيرَ الْمُبْرَمَ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمْضَى مَنْ أَنَابَتْ عَنْهَا فِي مُؤْتَمَرِ الصُّلْحِ تِلْكَ الْمُعَاهَدَاتِ النَّاطِقَةَ بِانْتِزَاعِ جَمِيعِ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ الَّتِي سَمَّوْهَا أَرْمَنِيَّةً وَيُونَانِيَّةً مِنْ سَلْطَنَتِهَا، وَجَعْلِ بَقِيَّةِ بِلَادِهَا وَهِيَ الْوِلَايَاتُ التُّرْكِيَّةُ مَعَ الْعَاصِمَةِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الدُّوَلِ الْقَاهِرَةِ فِي مَالِيَّتِهَا وَإِدَارَتِهَا.
آيَاتُ اللهِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَالرَّجَاءُ بَعْدَ الْيَأْسِ:
لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا مُتَّكَأٌ وَلَا مَلْجَأٌ يَأْوِي إِلَيْهِ الْغُرُورُ، وَلَا مَنْفَذٌ يَتَسَرَّبُ مِنْهُ الْأَمَلُ، عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمَعْهُودُ فِي عُرْفِ الدُّوَلِ. هُنَالِكَ يَئِسَ الضُّعَفَاءُ، وَاسْتَسْلَمُوا لِلْأَعْدَاءِ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُرِيَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ آيَاتِ عِنَايَتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِ الْيَائِسِينَ مِنْ رُوحِهِ وَضَلَالِ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ. فَأُلْهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْعَزَائِمِ مِنْ قُوَّادِ الدَّوْلَةِ فِي الْأَنَاضُولِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَيَاةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَقِرَ الْمَوْتَ. وَأَنَّ كُلَّ مِيتَةٍ يَمُوتُهَا الْإِنْسَانُ، فَهِيَ أَشْرَفُ مِنَ الِاسْتِحْذَاءِ، وَالْمَهَانَةِ بِالِاسْتِسْلَامِ لِلْأَعْدَاءِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَنْصُرُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ الْمُعْتَصِمَةَ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ، عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُعْتَدِيَةِ بِالْبَاطِلِ وَالْبَغْيِ، فَأَلَّفُوا جَمْعِيَّةً وَطَنِيَّةً وَضَعُوا لَهَا مِيثَاقًا تَوَاثَقُوا عَلَى أَنْ يُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِهِ إِلَى أَنْ يُطَهِّرُوا جَمِيعَ الْبِلَادِ التُّرْكِيَّةِ مِنَ الِاحْتِلَالِ الْأَجْنَبِيِّ فَتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً خَالِصَةً لِأَهْلِهَا. وَقَدْ كَانَتْ جُيُوشُ الِاحْتِلَالِ فِي بِلَادِهِمْ مُؤَلَّفَةً مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَالطَّلْيَانِ وَالْيُونَانِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذِهِ الدُّوَلِ الظَّافِرَةِ بِفِئَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ جُنْدِ الْأَنَاضُولِ وَحْدَهُ قَدْ أَنْهَكَتْهُ الْحَرْبُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَوَالِيَةً، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ بِلَادِ الرُّومَلِلِّي تُرْكِيَا عَلَى رَأْيِهِمْ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِالْآسِتَانَةِ الَّتِي نُزِعَ سِلَاحُهَا وَاحْتَلَّتْهَا هَذِهِ الدُّوَلُ بَرًّا وَبَحْرًا. وَقَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ أَنْ كَانَ الْفَلْجُ وَالظَّفَرُ لِهَذِهِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ مِنْ بَقَايَا الْجَيْشِ الْعُثْمَانِيِّ الْكَبِيرِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الْعُثْمَانِيَّةِ، الَّذِي فَشَلَ مَعَ أَعْظَمِ جَيْشٍ وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ هَذِهِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَسِلَاحًا وَنِظَامًا وَهُوَ فِي أَوْجِ انْتِصَارِهِ - أَعْنِي الْجَيْشَ الْأَلْمَانِيَّ -.
ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَيْشَ الْعُثْمَانِيَّ الْكَبِيرَ كَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ غُلَاةُ الْعَصَبِيَّةِ الطُّورَانِيَّةِ مِنَ الِاتِّحَادِيِّينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَا لُقِّنُوا مِنْ دَسَائِسَ السِّيَاسَةِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ، وَخِدَاعِ
الْمَاسُونِيَّةِ، وَالْجَاهِلِينَ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ، وَحَقِيقَتِهِ. فَبَثُّوا دَعْوَةَ الْكُفْرِ وَأَبَاحُوا كَبَائِرَ الْفِسْقِ. وَفَرَّقُوا الْكَلِمَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ. وَفَتَكُوا بِالْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَ أَنْ جَنَّدُوا مِنْهَا زُهَاءَ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ جُنْدٍ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِمْ. فَقَتَلُوا وَصَلَبُوا شَبَابَهَا وَكُهُولَهَا النَّابِغِينَ. وَنَفَوُا الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ وَالشُّيُوخَ الْعَاجِزِينَ. فَمَهَّدُوا السَّبِيلَ لِثَوْرَةِ الْحِجَازِ. وَخَسِرُوا مَا لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ الْقُصْوَى إِلَى الِاتِّحَادِ، فَأَنَّى يَنْتَصِرُونَ أَوْ يَنْتَصِرُ بِهِمْ مَنْ يُحَالِفُونَ؟.
وَأَمَّا جَيْشُ الْأَنَاضُولِ الَّذِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى قِلَّتِهِ، فَإِنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ زَعِيمُهُ الْأَكْبَرُ (مُصْطَفَى كَمَال بَاشَا) أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لِأَحَدٍ مِنْ زُعَمَاءِ أُولَئِكَ الْغُلَاةِ بِدُخُولِ الْأَنَاضُولِ فِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ لِئَلَّا يُفْسِدُوا عَلَى الْبِلَادِ أَمْرَهَا، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ مِنَ الْوُجْهَةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَرَفُوا قِيمَةَ الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَطَفِقُوا يَسْعَوْنَ إِلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبِلْشِفِيِّينَ الرُّوسِيِّينَ، لِلِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى
مُقَاوَمَةِ الْمُسْتَعْمِرِينَ، وَجَعْلِ شُعُوبِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهَا حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً، وَقَدْ قَوِيَتْ آمَالُ هَذِهِ الشُّعُوبِ فِي الِاسْتِقْلَالِ، وَطَفِقُوا يَعْقِدُونَ الْمُعَاهَدَاتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُكُومَةِ مُصْطَفَى كَمَال، وَلَمْ يَشِذَّ عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ الشَّرْقِيَّةِ، غَيْرُ شَعْبٍ مِنَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ أَوْلَاهَا بِطَلَبِ الْوَحْدَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنْ خَدَعَهُ زُعَمَاؤُهُ. وَأَضَلَّهُ سَادَتُهُ وَكُبَرَاؤُهُ. عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ. وَشَرُّهُمْ مَنْ غَشَّ قَوْمَهُ وَصَرَفَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ. بِتَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَاعَدَةِ وَالِانْتِدَابِ عَلَى الِاسْتِعْمَارِ الْمُرَادِفِ لِلِاسْتِعْبَادِ. وَزَعْمِ أَنَّ السُّلْطَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ ضَرْبَةُ لَازِبٍ، وَأَنَّ مُنَاصَبَتَهَا ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَوَلَاءَهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَسَيَعْلَمُ الْمَفْتُونُونَ بِغِشِّهِمْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَقْوَمُ قِيلًا، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَصِيرًا، وَيَقُولُونَ: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (٣٣: ٦٧، ٦٨).
وَمِنْ آيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ عَلَى الْيَائِسِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ أَلْقَى الْفَشَلَ السِّيَاسِيَّ بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُحْتَلَّةِ لِبِلَادِ الْأَنَاضُولِ وَالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَالرُّومَلِلِّي فَسَالَمَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا الطَّلْيَانُ، ثُمَّ صَالَحَ الْكَمَالِيَّيْنِ فِيهَا الْفِرِنْسِيسُ، وَخَذَلَ اللهُ تَعَالَى الْيُونَانَ الْمُجَاهِرَةَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُنْفَرِدَةَ بِالْحَرْبِ، اعْتِمَادًا عَلَى مُسَاعَدَةِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَتَحَوَّلْ عَنْ سِيَاسَتِهَا الْقَدِيمَةِ فِي ضَرْبِ الْأُمَمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَخُلِقَ لِهَذِهِ
الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَشَاكِلِ السِّيَاسِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَشْتَهِي مِنَ الْإِجْهَازِ عَلَى سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ، وَالْجَرْيِ عَلَى قَاعِدَةِ مَا أَخَذَ الصَّلِيبُ مِنَ الْهِلَالِ لَا يَعُودُ إِلَى الْهِلَالِ حَتَّى عَجَزَتْ - عَلَى دَهَائِهَا وَحَزْمِهَا وَعُلُوِّ نُفُوذِهَا السِّيَاسِيِّ وَالْمَالِيِّ وَالْحَرْبِيِّ فِي أُورُبَّةَ كُلِّهَا - عَنْ حَلِّ أَيَّةِ مُشْكِلَةٍ مِنْهَا:
وَلَوْ كَانَ رُمْحًا وَاحِدًا لَاتَّقَيْتُهُ وَلَكِنَّهُ رُمْحٌ وَثَانٍ وَثَالِثٌ
فَأَرَتْنَا قُدْرَةُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا مُنْتَهَى الْعَجْزِ عَنْ بُلُوغِ مُنْتَهَى الْقُدْرَةِ وَالْأَيْدِ، فَقَدْ ثَارَتْ عَلَيْهَا أَرْلَنْدَةُ وَمِصْرُ وَفِلَسْطِينُ وَالْعِرَاقُ وَالْهِنْدُ ثَوْرَاتٍ مُخْتَلِفَةَ الْمَظَاهِرِ مُتَّفِقَةَ الْمَقَاصِدِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَضْعَفُهَا فِي الظَّاهِرِ أَقْوَاهَا فِي الْبَاطِنِ كَثَوْرَةِ الْهِنْدِ السَّلْبِيَّةِ بِالْمُقَاطَعَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، فَقَدْ دَعَا الزَّعِيمُ الْهِنْدِيُّ الْأَكْبَرُ (غَانْدِهِي) قَوْمَهُ إِلَى عِقَابِ حُكُومَتِهِمُ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْمُسْتَعْمِرَةِ عَلَى اسْتِبْدَادِهَا بِأُمُورِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهَا بِوُجْدَانِهِمْ وَشُعُورِهِمْ بِمُقَاطَعَةِ تِجَارَتِهَا وَتَرْكِ لُبْسِ مَنْسُوجَاتِهَا، فَرَدَّدَ صَدَى دَعْوَتِهِ جَمِيعُ الزُّعَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْهِنْدُوسِ عَلَى سَوَاءٍ، وَطَفِقُوا يَحْرِقُونَ مَا عَلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ هَذَا اللِّبَاسِ بَعْدَ نَزْعِهِ فِي الْمُحَافِلِ الْعَامَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَقِبَ الْخُطَبِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا،
وَلَوْ حَذَا الْمِصْرِيُّونَ حَذْوَهُمْ بِتَرْكِ شِرَاءِ الْجَدِيدِ وَلَوْ مَعَ اسْتِبْقَاءِ التَّلِيدِ لَكَانَ ذَلِكَ أَقَرَبَ وَسِيلَةٍ إِلَى نَيْلِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْحُرِّيَّةِ مِنْ خُطَبِ الزَّعِيمِ سَعْدٍ بَاشَا الْبَلِيغَةِ وَمُفَاوَضَاتِ الْوَزِيرِ عَدْلِي بَاشَا الرَّسْمِيَّةِ.
وَمِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَحُجَجَهِ أَيْضًا أَنْ سَخَّرَ الدَّوْلَةَ الرُّوسِيَّةَ الْجَدِيدَةَ لِمُظَاهَرَةِ التُّرْكِ وَشَدِّ أَزْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّوْلَةُ عَلَى عَهْدِ الْقَيَاصِرَةِ هِيَ الْخَطَرَ الْأَكْبَرَ عَلَى السَّلْطَنَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِظُهُورِهَا عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ حُرُوبٍ، بَلِ انْبَرَتْ حُكُومَةُ (السُّوفْيَاتِ) الرُّوسِيَّةُ الْجَدِيدَةُ لِبَثِّ الدَّعْوَةِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ وَسَائِرِ شُعُوبِ الشَّرْقِ الْمُسْتَعْبَدَةِ لِلْأَجَانِبِ بِأَنْ يَهُبُّوا لِطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الثَّوْرَةِ فِي الْهِنْدِ - وَجَعَلَ الْإِمَارَةَ الْأَفْغَانِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ مَقْهُورَةً مَحْصُورَةً بَيْنَ الْبِرِيطَانِيِّينَ فِي الْهِنْدِ وَبَيْنَ الرُّوسِ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً ذَاتَ سُفَرَاءَ لَدَى الدُّوَلِ الْأُورُبِّيَّةِ وَغَيْرِهَا - وَنَجَّى الدَّوْلَةَ الْإِيرَانِيَّةَ مِنْ شَرِّ تِلْكَ الْمُعَاهَدَةِ الَّتِي عَقَدَتْهَا مَعَ
انْكِلْتِرَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ قَاضِيَةً عَلَى اسْتِقْلَالِهَا بِسُوءِ اخْتِيَارِ مَرْضَى الْقُلُوبِ مِنْ رِجَالِهَا. بَلْ فَعَلَتْ دَوْلَةُ السُّوفْيَاتِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، عَقَدَتْ مُعَاهَدَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الثَّلَاثِ: التُّرْكِ، وَالْفُرْسِ، وَالْأَفْغَانِ. اعْتَرَفَتْ فِيهَا بِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُنَّ، وَأَرْجَعَتْ إِلَيْهِنَّ مَا كَانَتْ دَوْلَةُ الْقَيَاصِرَةِ قَبْلَهَا قَدْ سَلَبَتْهُنَّ، وَأَسْقَطَتْ لِلْمَدِينَاتِ مِنْهُنَّ لِلرُّوسِيَّةِ مَا كَانَ لَهَا مِنَ الدَّيْنِ عَلَيْهِنَّ، وَسَمَحَتْ لِلدَّوْلَةِ الْإِيرَانِيَّةِ بِمَا لَهَا فِي بِلَادِهَا مِنْ سِكَكِ الْحَدِيدِ؛ فَلِذَا كَانَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ مَعَ الشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ كُلِّهَا رَاضِيًا عَنْ حُكُومَةِ الرُّوسِ الْجَدِيدَةِ شَاكِرًا لَهَا مُثْنِيًا عَلَيْهَا، لَا يُثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ مَا أَصَابَ الْبِلَادَ الرُّوسِيَّةَ نَفْسَهَا مِنَ الْمَصَائِبِ بِتَنْفِيذِ نَظَرِيَّاتِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ فِيهَا، وَلَا مَا بَثَّتْهُ الدَّوْلَةُ الْبِرِيطَانِيَّةُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ذَمِّ هَذِهِ الْحُكُومَةِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا، بَلْ كَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَطْفِ عَلَيْهَا وَالشُّكْرِ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَبْعَدَ الشُّعُوبِ عَنِ الْبَلْشَفِيَّةِ وَمَذَاهِبِهَا.
فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الشُّعُوبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِ رَبِّهَا، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي التَّعَاوُنِ الْمُمْكِنِ عَلَى دَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا وَطَلَبِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الْمُطْلَقِ لِكُلٍّ مِنْهَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَحَالِفَةً مُتَكَافِلَةً فِي سِيَاسَتِهَا، فَهِيَ بَالِغَةٌ بِتَوْفِيقِ اللهِ مُنْتَهَى مَا تُؤَمِّلُ وَتَرْجُو، وَإِنَّمَا الْخِزْيُ وَالسُّوءُ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِإِغْوَاءِ عَدُوِّ اللهِ الْيَائِسِينَ مِنْ رَوْحِ اللهِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) (١٨: ٥٧).