
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا... (١١٤)
* * *
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقد كان ما قبلها طلب آيات، وقسم منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكاما على آيات الله تعالى على الآية الكبرى وهي القرآن فينكر النبي - ﷺ - بأمر ربه أن يكونوا حكاما على آيات الله غير الله.

وقدمت همزة الاستفهام على الفاء؛ لأن الاستفهام دائما له الصدارة، و (حكما) معناها حاكم، بيد أن حُكْمه دائما حقا صوابا، والحاكم قد يكون صوابا وربما يكون غيره، وقد يكون حقا وربما يكون غيره، والمعنى الجملي: أتقولون في القرآن ما تقولون، وتطلبون آيات أخرى غير القرآن، وتريدون أن يكون غير الله تعالى حكما، وإنها في هذا المقام أهواؤكم.
وهنا إشارات بيانية:
أولاها: أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لَا أبتغى غير الله تعالى حكما، وقد قدم غير الله حكما، لمزيد استنكار ذلك، وإنه غير معقول وغير جائز، وغير مقبول في ذاته.
الثانية: أن الابتغاء من (بغى) بمعنى طلب، ومن موضع الاستنكار أن يرضي بغير الله حكما، فضلا عن أن يبتغيه، ويطلبه طلبا مشددا فيه، كما يريدون أن يطلب النبي - ﷺ -، والله تعالى هو الذي ارتضى له هذه الآية، وهي القرآن الكريم.
ولذا قال تعالى على لسان النبي: (وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مفَصَّلًا) وهذه الجملة حالية، أي كيف أبتغي غير الله تعالى حكما في آياته وقد أصدر حكمه، وأنزل إليكم الكتاب مفصلا مبينا معرفا بالأحكام المطلوبة، والأحكام المنهية في بلاغة، تحداكم أن تأتوا بمثلها فعجزتم عجزا مبينا.
وقوله تعالى: (أَنزَلَ إِلَيْكمُ الْكِتَابَ) أي آتاكم آيته؛ الكتاب الكريم مفصلا مبينا حجة باهرة، وقد شهدت له الكتب السابقة والأنبياء السابقون؛ ولذا قال تعالى:
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّه مُنَزَّلٌ من رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه كتاب مجيد يعلمه السابقون من الأنبياء، وهو كتاب أزلي أبدي، علم أمره السابقون وسيبقى في الخلود إلى يوم الدين، وقد

جاءت كتب أهل الكتاب بالشهادة له فهو معجزة أزلية ثابتة، وقد قال تعالى في بيان ذكره في الكتب السابقة هو ورسوله الأمين: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، فهو كتاب الخليقة الذي يشتمل على كل الحقائق الشرعية.
ولقد قال تعالى رادا على أي شكوك وارتياب: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤).
وإن الشك ليس من النبي - ﷺ -، ولكنه شك من المشركين أداهم إليه جحود الحق وقد عرفوه ولقد قال بعد ذلك في هذه الآية.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)
الامتراء: الشك، والنهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر فإن تقدير القول إذا علمت أنه حكم الله تعالى، وأن الكتب السابقة شاهدة على الصدق، فلا تكونن من الممترين والنهي للنبي - ﷺ -، بظاهر القول، وهو لأمته التي يدعوها إلى الإسلام، وإلى أولئك الذين تهجموا بطلب آيات أخرى، وليس النهي للنبي - ﷺ - في الحقيقة؛ لأن النهي عن فعل يكون حيث يتوقع وقوعه، ولا يمكن أن يكون ذلك من النبي - ﷺ -، لأنه الذي نزل عليه القرآن، فلا يمكن أن يكون منه امتراء إنما يكون من غيره، وإنما ذكر موجها إليه - ﷺ -، لإعلاء شأن القرآن، ولبيان مكانته، وأنه فوق ارتياب المرتابين، ولأنه إذا كان النبي - ﷺ - منهيا عن الامتراء، وهو من نزل عليه القرآن فغيره أولى بالنهي.
وإن نزول القرآن والتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، وتقدير الله تعالى بأنه لَا يؤتى بمثله قط إذ قال تعالت كلماته: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ

عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨).
وإذا قد نزل القرآن الآية الكبرى، فقد تمت كلمة الله في ذلك؛ ولذا قال سبحانه:
* * *