
وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى.
وفي المراد «باللينة» ستة أقوال «١» : أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء. والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج:
أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل. والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان. والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات، قاله الضحاك. والثاني:
أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق. والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله. قوله عزّ وجلّ: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى:
وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)

قوله عزّ وجلّ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي: ما ردَّ عليهم مِنْهُمْ يعني: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال أبو عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة:
يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء.
(١٤١٩) فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصّمّة.
ثم ذكر حكم الفيء فقال عزّ وجلّ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: من أموال كفار أهل القرى فَلِلَّهِ أي: يأمركم فيه بما أحبّ، وَلِلرَّسُولِ بتحليل الله إياه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال «١» وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.
فصل «٢» :
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا:
الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال:
__________
(١) الأنفال: ٤١.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٩٦: يقول تعالى: مبينا لمال الفيء، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:
كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل، ولا ركاب كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فأفاءه الله على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات، فقال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير.
ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية «١»، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء، والتي في الأنفال «٢» مبيّنة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ.
قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ يعني الفيء دُولَةً وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى: لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول. والدَّولة، بالفتح:
الفعل والانتقال من حال إلى حال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عن أخذه فَانْتَهُوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج: ثم بين مَن المساكين الذين لهم الحقّ، فقال عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون:
يعني بهم المهاجرين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي: رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني: دار الهجرة، وهي المدينة وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فقر وحاجة، فبيّن الله عزّ وجلّ أن إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
(١٤٢٠) أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحقّ
__________
(١) الأنفال: ٤١.
(٢) الأنفال: ٤١.

ما عهدنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظنّ الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء».
(١٤٢١) والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
(١٤٢٢) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قرأ ابن السميفع، وأبو رجاء «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف.
قال المفسرون: هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.
فصل:
وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال:
أسمع الله يقول: «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما البخل، وبئس الشيء البخيل.
عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨/ ٢٥- بتخريجنا للثعلبي عن أنس، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.