بدئت به أول سورة الأعلى في ج ١، ويوجد سورة التغابن مختومة بما ختمت به ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١) في مبدعاته فيها القاهر والغالب لكل من فيهما وبينهما وعليهما وفوقهما وتحتها. وقد بينا معنى التسبيح وأقسامه أول سورة الحديد المارة فراجعها وما ترشدك إليه «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ» ذكرنا في المقدمة في بحث النّزول أن نزول الآيات والسّور قد يتقدم على سببه وقد يقارنه وقد يتأخر عنه حسبما تقتضيه الإرادة الرّبانية. وهذه السّورة في القسم الثالث، لأنها تمثلت في بني النّضير الّذين رئيسهم كعب بن الأشرف الذي كان عاهد حضرة الرّسول ونقض عهده، لهذا نعتهم الله بالكفر مع أنهم من أهل الكتاب الّذين لا يطلق عليهم لفظ الكفر وكان عاهدهم الرّسول في المدينة على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فلما غزا رسول الله بدرا على الصّورة المبينة في الآية ١٥ من سورة الأنفال المارة وظهر فيها على المشركين قالوا والله هذا هو النّبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة الذي لا تردّ له راية، فلما تلتها غزوة أحد المشار إليها في الآية ١٣٩ من آل عمران المارة أيضا ارتابوا وأظهروا العداء وأول جناية فعلوها هي حينما جاءهم الرّسول يستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري في منصرفه من بئر معونة، المارة قصّتهم في الآية ١٦٩ من آل عمران أيضا، هموا بطرح حجر عليه من الحصن ليقتلوه، فعصمه الله تعالى كما سيأتي بيان هذه الحادثة في الآية ١٠ من سورة المائدة الآتية، ثم نقضوا العهد علانية وتحالفوا مع المشركين على مناوأة الرّسول، وبعد غزوة حمراء الأسد وغزوة بدر الأخرى المشار إليها في الآيتين ١٧٢ و ١٧٣ من آل عمران أيضا حرض رسول الله على قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة على الصّورة المارة في الآية ١٨٦ منها أيضا، فراجعها لتقف على كيفية اغتياله وكيف احتمال عليه الّذين قتلوه، وما قالت زوجته عند خروجه إليهم وما رد به عليها. وخلاصة هذه القصة التي وعدنا بذكرها في الآية ٢٧ من سورة صفحة رقم 89
الأنفال المارة هي أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم بعد قتل رئيسهم كعب في بضعة أشهر في شهر ربيع الأوّل السّنة الرّابعة من الهجرة الشّريفة غزاهم بأصحابه الكرام فوجدهم لم يزالوا ينوجون على رئيسهم، فأمرهم بالخروج من قريتهم المسماة الزهرة، فقالوا له الموت أقرب، وكان المنافقون عبد الله بن سلول وأصحابه دسّوا لهم بأن لا يخرجوا وتعهدوا لهم بالمعونة والنّصرة على قتال محمد وأصحابه وانهم لا يخذلونهم أبدا فحصّنوا أزقة المدينة، وأجمعوا على الغدر برسول الله، وتنادوا في الحرب فيما بينهم، وقالوا لحضرة الرّسول، أخرج علينا في ثلاثين من أصحابك وليلقاك ثلاثون حبرا منا، فإن آمنوا بك آمنا، فخرج الفريقان إلى براز في الأرض، وإنما وافقهم رسول الله على هذا، وهو إنما جاء عامدا لقتالهم حرصا على دخولهم في الإيمان، فلما خرجوا قال اليهود بعضهم لبعض كيف نخلص إليه وكلّ أصحابه يحب الموت دونه؟ فاتفقوا على أن يخرج الرّسول في ثلاثة من أصحابه فقط ويقابله ثلاثة من أحبارهم، لأن التفاهم لا يحصل بين ستين رجلا، فخرج إليهم صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ولم يدر ما دبروه إليه من الكيد، ولم يخبره ربه بشيء، فتقدم أحبار اليهود مدججين بالسلاح ليفتكوا به، فأخبرت امرأة منهم أخاها المسلم بما دبّروه له من الكيد والمكر، فأقبل مسرعا وأدرك الرّسول قبل أن يتصل باليهود وأخبره الخبر، فرجع صلّى الله عليه وسلم وعرفوا ذلك، فرجعوا أيضا ولم يكلموه، إذ علموا أنه اطلع على مكرهم قالوا فلما كان الغد صبحهم رسول الله بالكتائب وألقى الله في قلوبهم الرّعب، فلم يخرجوا إليه فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وهم ينتظرون نصرة المنافقين الّذين وعدوهم بالمعونة ولما أيسوا منهم طلبوا الصّلح من رسول الله، فأبى إلّا أن يخرجوا من ديارهم على ما يأمرهم به، فقبلوا، فأمرهم بالجلاء على أن لهم ما أقلت إبلهم من أموالهم عدا السّلاح، فخرجوا وهاجروا إلى أذرعات من أرض الشّام وأريحا من أرض فلسطين، (والجلاء هو الخروج بالأهل من الوطن إلى مكان آخر عنوة) وتركوا ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم غنيمة للمسلمين، أما آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب منهم فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، وأنزل الله هذه السّورة بعد الواقعة بسنتين يعدد فيها نعمه على عبده، ويذكره
بأن إخراجهم
كان «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» والحشر إخراج جمع من مكان وسوقه إلى غيره، وهم أول من أخرج من جزيرة العرب المحاطة من القبلة والشرق والغرب ببحري الحبشة وفارس، ومن الشّمال بنهري دجلة والفرات، وفي قوله تعالى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) إشارة إلى أنهم يحشرون ثانيا، وقد كان ذلك في زمن خلافة عمر رضي الله عنه، لأنه أجلى بقايا اليهود من خيبر إلى الشّام، وذلك لما بلغه قول صلّى الله عليه وسلم لا يبقين دينان في جزيرة العرب، وإشارة أخرى إلى أن الحشر يوم القيامة بأرض الشّام، وأن أريحا وأذرعات اللّتين هاجر إليهما اليهود من أول الأرض المتاخمة إلى أراضي الشّام وهو كذلك، قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية، ولأن الرسول لما قال لهم اخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. وبنو النّضير هؤلاء وبنو قريظة الّذين تقدمت قصتهم في الآية ٢٦ من سورة الأحزاب من أولاد الكاهن ابن هرون عليه السّلام، وسبب نزولهم وبني قينقاع في أرض الحجاز هو أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق المتوطنون في يثرب والجحفة، فوجه إليهم موسى عليه السّلام جيشا من أبناء هؤلاء اليهود فأهلكوهم عن آخرهم، إلا ابن ملك لهم، كان غلاما حسنا فرقوا له واستوطنوا مكانهم وتناسلوا فكثروا، وبعد سيل العرم جاء الأوس والخزرج من اليمن إلى يثرب ونزلوا بجوارهم وبقوا جميعا إلى أن جاء الإسلام. قال تعالى يا أيها المؤمنون «ما ظَنَنْتُمْ» أولا «أَنْ يَخْرُجُوا» هؤلاء اليهود من مدينتهم لشدة تحصّنهم فيها وتهالككم عليها لما لهم فيها من الأموال وقدم السّكنى «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ» بأس «اللَّهِ» فلم يفكروا بالخروج من وطنهم «فَأَتاهُمُ اللَّهُ» هذه الجملة من آيات الصّفات التي أشرنا إليها أول آل عمران أي حل بهم بلاؤه وألقى في قلوبهم الخوف وتحقق الإهلاك والدّمار من قبل الرّسول وأصحابه «مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» ولم يخطر ببالهم أن رئيسهم يقتله أخوه لأمه، وأن محمدا يحيط بهم ويقسرهم على الخروج، وقد هددهم بالقتل إن لم يخرجوا «وَ» أن الله «قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» حتى صاروا بحالة «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ» لئلا يسكنها أحد من بعدهم «وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» تخرّب بيوتهم أيضا ليدخلوها
صفحة رقم 91عنوة ويزيلوا تحصينها لتزداد النّكاية بهم «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (٢) كيف فعل الله بأعدائه فهو فعل عظيم يؤخذ منه عبرة جليلة وعظة خطيرة، وقدمنا في الآية ١٣ من آل عمران المارة أن هذه الآية مصدر أخذ القياس في الأحكام الذي بيناه في الآية ٣٥ من سورة الإسراء ج ١ «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ» الذي هو أهون عليهم من القتل ورضائهم به «لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا» بأعظم منه وهو الأسر والسّبي والقتل كما فعل في بنى قريظة الّذين حكموا سعدا فيهم، راجع قصتهم المذكورة في الآية ٢٧ من آل عمران المارة تطلع على ما عد خيانة على سفير رسول الله وهذا عذابهم في الدّنيا «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (٣) على ما فعلوه بالدنيا «ذلِكَ» الذي كتب عليهم «بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بنقضهم العهد وإرادتهم الغدر بحضرة الرّسول «وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (٤) إذا عاقب قال تعالى «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ» نخلة كريمة بسبب دخولكم على أولئك الكفرة «أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ» قطعها وتركها لأنكم لا تقتدرون أن تتحركوا بحركة إلّا بعلمه وإرادته «وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» (٥) المذكورين لأنهم خرجوا عن طاعة الرّسول والقطع الذي وقع كان أثناء الحصار. وسبب نزول الآية هو أن منهم من نهى عن قطع النّخيل تأثما، ومنهم من أمر به تشفيا لما حاكوه من الكيد بحق الرّسول، ولذلك فإن الأصحاب المجاهدين منهم من امتنع، ومنهم من دوام لإغاظة المحصورين وإلجائهم إلى التسليم، فأنزل الله هذه الآية بتصديق نهي الناهي وتحليل قطع القاطع من الإثم. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم نخل بني النّضير وقطع أشجار البويرة وهي اسم موقع لهم فنزل (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) الآية، وفيها قال حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لوي | حريق بالبويرة مستطير |
وإهانتهم وكسر شوكتهم. قال تعالى «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ» يكون خاصة لحضرة الرّسول يضعه حيث شاء، لأن الذي يقسم على الجيش هو الذي يحصل بالمقاتلة أو المشقة، وهذا ليس كذلك، لأن قريتهم على ميلين من المدينة، وقد جاؤا مشيا على الأقدام ولم يتجشموا من جرائهم تعبا ولا نصبا.
قال تعالى مبينا ما هو المراد من صدر الآية وموضحا كيفية تقسيم الغنائم واختصاصها بقوله جل قوله «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ» الوجيف سرعة السّير أي فما أجريتم على اغتنامه «مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» حتى تستحقوا منه شيئا، وذلك ان بني النّضير لما أجلوا وتركوا رباعهم وضياعهم وخيلهم، طلب بعض المسلمين الّذين كانوا مع حضرة الرّسول قسمتها بينهم كما فعل بغنائم خيبر، فأنزل الله هذه الآية يعلمهم فيها أن ليس لهم بشيء منها من حق لأنهم لم يتجشموا من أجلها متاعب ولم يقطعوا فيها مشقة، ولذلك خصصها لحضرة رسوله، أما الذي يكون بشيء من ذلك فحكم تقسيمه ما أوضحناه في الآية ١٠ من سورة الأنفال، وهكذا كلّ مدينة يسلم أهلها بلا قتال على شيء أو بدون شيء، والتي تدخل صلحا في حوزة المسلمين فإن ما يحصل منها في الفيء يكون للامام يضعه في بيت مال المسلمين وينفقه بعد في حوائجهم ومصالحهم وعلى الطّرق والثعور وفي السّلاح وغيره مما يراه نافعا وعلى المذكورين في الآية الآتية «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» فيأخذهم بالرعب دون قتال وسوق جيش يناله مشقة بالوصول إليهم كهؤلاء «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٦) يأخذ أناسا بقتال وأناسا بغيره، ومع هذا فإن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم قسمه بين المهاجرين والأنصار كما رواه البخاري عن عن مالك ابن أوس الفهري، وقد أشار الله إلى هذا بقوله «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» لأن مجيئها بلا أداة العطف دليل على أنها بيان للآية قبلها وهي إيضاح من الله للرسول فيما يضع بما أفاء الله عليه خاصة، وأمره له بان بضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، وقد بينا الفرق بين الفيء والغنيمة هناك فراجعه، وقد أمر الله تعالى رسوله بذلك «كَيْ لا يَكُونَ» الفيء
الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها «دُولَةً» بضم الدّال وهي يتداوله ويتداوره النّاس بينهم في الملك بالكسر وبفتح الدّال ما يتدابره النّاس في الملك بضم الميم في النّصرة والجاه، وقيل قسمته تقسيم وتنداول «بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» فيكاثر به بعضهم بعضا ويغمطون حق الفقراء، وهكذا، فلا يجوز للسلاطين والملوك والأمراء أن يختصوا بمثل ذلك لأنفسهم بل ينبغي أن يتركوه لمنافع المسلمين كالسلاح وعمارة الجسور ومحافظة الثغور وإصلاح الطّرق وآلات الحرب ولوازم المجاهدين والإنفاق على المرضى والعجزة والأرامل والأيتام وتعليم الفقراء والمساكين وما شابه ذلك.
مطلب أمر الرّسول أمر الله وبيان قسمة الفيء والغنيمة وذم البخل والشّح وعمل أبي طلحة رضي الله عنه وحب الأصحاب حب الرّسول:
قال تعالى «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» أيها المؤمنون سواء كان من الفيء أو الغنيمة، ولا تطلبوا زيادة منه، ولا تسألوه لم أعطى ولم منع «وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» من الغلول وغيره، وامتثلوا أمره. وهذه الآية عامة في كلّ ما يأمر به حضرة الرّسول وينهى عنه، لأنه لا يقول إلّا حقا ولا ينطق إلّا صدقا ولا يتكلم عن هوى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تتهاونوا بأمره ونهيه كله لأنكم مأمورون بطاعته، قال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية ٥٨ من سورة النّساء المارة فطاعة الله طاعة رسوله وبالعكس «إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» (٧) على من يخالف أمر رسوله في قول أو فعل أو عمل، ولذلك ختم الله هذه الآية في هذه الجملة المهددة للمخالف الموعدة له بسوء العاقبة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أنه قال لعن الله الواشمات والمستوشمات (أي الطّالبات الوشم) وهو غرز الإبرة بجسم الإنسان وحشوه بالكحل أو شيء من الصّبغ فيصير أسود أو أزرق والمتنمّصات (اللائي ينتفن الشّعر من الوجه وغيره) والمتفلجات (اللائي يتكلفن تفريج ما بين ثناياهن بضاعة) للحسن المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته؟ فقال عبد الله ومالي لا ألعن من
لعن رسول الله وهو في كتاب الله، فقالت المرأة لقد قرأت الوحي (المصحف) فما وجدته، فقال إن كنت قرأته لقد وجدته، فإن الله عز وجل قال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) يعلمها في هذه الآية أن ما يقوله حضرة الرسول واجب اتباعه مثل الذي يقوله الله في كتابه. وما رويا عن عائشة قالت قال صلّى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وفي رواية: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا ألفين أحدكم منكبا على أريكته يأتيه أمر ما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه يؤيد هذا ويؤكده. إذا فلا محل للقول فيما قاله حضرة الرّسول بأنه ليس في كتاب الله، ولذلك لا نتفيد به بل هو من كتاب الله، لأن كلّ ما أخبر به رسول الله هو من الله، وفي كتاب الله، وبأمر الله، وعليه فإن من يتعدى لمثل هذا القول هو معاند زنديق لا يؤمن بكتاب الله ولا يصدق رسوله، لأنه لو آمن لما تجرأ على مثل هذا، ثم ذكر الله تعالى أصحاب الحقوق في الفيء بقوله «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ» قسرا من قبل كفار قريش لأنهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لإعلاء كلمته ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم لمرضاة الله لا لأمر آخر «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (٨) في هجرتهم المخلصون بإيمانهم المستحقون للفيء أكثر من غيرهم. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنّة بأربعين خريفا «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ» اتخذوا المدينة مسكنا لهم ومأوى للمهاجرين من أهل مكة قبل قدوم النّبي صلّى الله عليه وسلم «وَالْإِيمانَ» لزموه وأخلصوا لله به على حد قوله علفتها تبنا وماء باردا. وذلك لأنهم آثروه على الكفر «مِنْ قَبْلِهِمْ» وقيل المهاجرين وهم الأنصار الّذين آمنوا بمحمد قبل هجرته إليهم، وهم الّذين «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من إخوانهم المسلمين المهاجرين حيث شاطروهم بأموالهم ومنازلهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم زواجا لهم، وذلك أن منهم من كان عنده نساء متعددات ولم يكن
صفحة رقم 95
عندهم بنات فصار يطلق من قضى نهمته منها ثم يزوجها أخاه المهاجر، وهذا مما لا بأس به شرعا «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» أي حزازة أو غيظا أو حسدا «مِمَّا أُوتُوا» من الفيء دونهم لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أعطى المهاجرين أموال بني النّضير ولم يعط منها إلّا ثلاثة من الأنصار، هم أبو حارثة سماك بن خراشة وسهيل بن حيف والحارث بن الصّمة، لم يغتاظوا وبقيت نفوسهم طيبة بذلك ولم يقولوا لم يعطنا مثل المهاجرين وكنا معه سواء «وَيُؤْثِرُونَ» أولئك الممدوحون أي
يفضلون المهاجرين «عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» أي حاجة وفقر، قال ابن عباس قال صلّى الله عليه وسلم يوم النّضير للانصار إن شئتم قسمتم المهاجرين من أموالكم ودياركم وتشار كونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة، فقالوا بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فأنزل الله هذه الآية. ومما جاء في الأخوة الصّادقة المخلصة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النّخيل، قال لا، فقالوا تكفونا المئونة ونشرككم في التمر، قالوا سمعنا وأطعنا. وما روى البخاري عن أنس ابن مالك قال دعا رسول الله الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، فقال اما لا فاجروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي (الأثرة بفتح الهمزة والثاء) أي يستأثر عليكم في أمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم بسبب فساد الزمان، إذ يوسد الأمر إلى غير اهله، ويسود القوم أرذلهم. وقيل نزلت هذه الآية في أبي طلحة لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني مجهود (أي شديد الجوع) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلّا الماء، ثم أقبل على الأخرى فقالت مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلّا قوت صبياني، قال فعلليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا أهوى بيده فقومي إلى
السراج فاطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضّيف وباتا طاوبين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصّلاة والسّلام لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة وفي رواية: وأنزل الله هذه الآية. وقدمنا ما يتعلق بالأخوة الصّادقة وفوائدها في الآية ٦٧ من سورة الزخرف ج ٢ فراجعها. قال تعالى «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» ويخالف هواها ويميل إلى كرم النّفس يفوز بخيري الدّنيا والآخرة، ولذلك قال تعالى «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٩) والشّح اللّؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع، وقيل في ذلك:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة | إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا |
رَحِيمٌ»
(١٠) فعلينا معاشر المؤمنين أن ندعو لمن قبلنا ومن بعدنا أسوة بهؤلاء الصالحين الّذين وصفهم الله بالآية السّابقة، فالّذين لا يتصفون بتلك الصّفات لا يستحقون شيئا من الفيء والغنيمة، وليس لهم حق أي نصيب وحظ في فيء المسلمين، لأن المسلم يجب أن يكون مؤمنا وأن يدعو للمؤمنين ممن سبق زمنه بالمغفرة، وأن لا يكون في قلبه غيظ على أحد منهم، يدل على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. وروى مسلم عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة يا ابن اختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله فسبوهم وأخرج الترمذي عن عبد الله بن معقل قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول، الله الله في أصحابي، لا تتّخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه فيطرحه في جهنم. قال تعالى (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) الآية ١٠٣ من سورة هود في ج ٢ فعلى العاقل أن لا يذكر أصحاب الرّسول إلّا بخير، ولا ينتقدهم، ولا يقبح رأيهم، ولا يعيبهم بشيء أبدا. وقال جابر قيل لعائشة إن أناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر، فقالت وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل وأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر. أي أن الله تعالى يثيبهم بسبب غيبتهم، وقد يأخذ من حسنات مغتابيهم فيضعها إليهم، ويأخذ من سيئاتهم فيطرحها على المغتابين وهم لا سيئات لهم إلّا أنه قد يقع منهم مما هو خلاف الأولى فيحسب عليهم سيئة بالنسبة لمقامهم الرّفيع. وقال مالك بن أنس من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآية.
وسمع ابن عباس رجلا ينال من أصحاب رسول الله فقال له من المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا، قال فمن الأنصار أنت؟ قال لا، قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان. وقال مالك بن مغول وفي نسخة بن مفعول، قال قال الشّعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنّصارى على الرّافضة بخصلة، سئلت اليهود من