إلى بني النضير: إنّا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغترّوا بذلك.
ولما لزم الأمر واقتضت الحرب معاونتهم خذلوهم وأسلموهم، وسألوا رسول الله ﷺ أن يكفّ عن دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا ذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
١١- قال الماوردي في آية: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ..: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب، لأن بعض الناس كان يقطع، وبعضهم لا يقطع، فصوّب الله الفريقين. والحق أن المصيب في الاجتهاد واحد، وغيره مخطئ لا إثم عليه، كما أن الآية ليست من محل النزاع، لأن اجتهاد الصحابة في عهد النبي ﷺ لا تأثير له، قال ابن العربي معلقا على قول الماوردي: وهذا باطل، لأن رسول الله ﷺ كان معهم، ولا اجتهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل على اجتهاد النّبي ﷺ فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الأذيّة للكفار، ودخولا في الإذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى:
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «١».
حكم الفيء
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
الإعراب:
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال.
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ.. الَّذِينَ: في موضع جر، لأنه معطوف على قوله: لِلْفُقَراءِ. والْإِيمانَ: منصوب بتقدير فعل، وتقديره: وقبلوا الإيمان. ويُحِبُّونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ. ويجوز أن يكون يُحِبُّونَ في موضع رفع، على أن يجعل الَّذِينَ مبتدأ، ويُحِبُّونَ خبره.
البلاغة:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا بينهما ما يسمى بالمقابلة.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الضمير دِيارِهِمْ بين المبتدأ، والخبر لإفادة الحصر.
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ استعارة، شبّه الإيمان المستقر في نفوسهم بمنزل للإنسان نزل فيه وتمكن منه.
المفردات اللغوية:
وَما أَفاءَ رد وأعاد، أي صيّره إليه، والفيء شرعا: ما أخذ من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال، أو بلا إيجاف خيل ولا ركاب أو صلحا كأموال بني النضير، أما الغنيمة: فهي
ما أخذ بحرب وقتال، ورأى بعضهم أن الفيء: العقارات، والغنيمة: المنقولات. مِنْهُمْ من بني النضير أو من الكفرة أو أهل الكتاب المذكورين في أول السورة. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ أسرعتم أيها المسلمون، من الوجيف: وهو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ مِنْ زائدة، والركاب: ما يركب من الإبل، والمراد: أنكم لم تبذلوا في تحصيله مشقة، ولم تقاسوا فيه شدة.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بإلقاء الرعب في قلوبهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الله القادر على ما يريد، تارة بواسطة، وتارة بغير واسطة، بحرب أو بغير حرب.
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى بيان للأول، أي من أهل البلدان المفتوحة بلا قتال، كالصفراء ووادي القرى وينبع. فَلِلَّهِ الأمر فيه لله يأمر فيه بما يشاء، قيل: تكون قسمة الغنائم أسداسا، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل: يخمّس، وذكر الله للتعظيم، ويصرف الآن سهم الرسول ﷺ إلى الإمام أو إلى الجيش، أو في مصالح المسلمين.
وَلِذِي الْقُرْبى صاحب قرابة النبي ﷺ من بني هاشم وبني المطلب. وَالْيَتامى أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم، وهم فقراء. وَالْمَساكِينِ ذوي الحاجة من المسلمين. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره من المسلمين. كَيْ لا يَكُونَ أي لئلا يكون الفيء، أو المال، وهو علة لقسمه على النحو المذكور. دُولَةً بالضم: متداولا، فالدولة: ما يتداول من المال، والدّولة بالفتح: ما ينتقل من الحال. آتاكُمُ أعطاكم. وَما نَهاكُمْ عَنْهُ ما منعكم عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف.
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من قوله: لِذِي الْقُرْبى وما عطف عليه، فإن الرسول ﷺ لا يسمى فقيرا، والمهاجرون: هم الذين هاجروا في صدر الإسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم.
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً الجملة حال مقيدة لصفة إخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم.
وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ينصرون دينه بأنفسهم وأموالهم. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إيمانهم وجهادهم.
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ أي والذين سكنوا المدينة ولزموها، ولزموا الإيمان وألفوه وتمكنوا فيه، والمراد بالدار: دار الهجرة، وهم الأنصار. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين.
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم. حاجَةً أي شيئا نفسيا كالحزازة والحسد والغيظ.
مِمَّا أُوتُوا مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره دون الأنصار. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ويقدمون المهاجرين على أنفسهم، من الإيثار: وهو تقديم مصلحة الغير على النفس في أعراض الدنيا. خَصاصَةٌ حاجة إلى ما يؤثرون به، من خصاص البناء: فرجته. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ
أي ومن يمنع ويحمى من بخل نفسه، وهو حب المال وبغض الإنفاق، والشح: بخل مع حرص. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل.
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المهاجرين والأنصار، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فلذلك قيل: إن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين. غِلًّا حقدا وحسدا لهم.
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بالغ الرأفة والرحمة، فحقيق بأن تجيب دعاءنا.
سبب النزول: نزول الآية (٩) :
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا..: أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم: أن الأنصار قالوا: يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال:
لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا: رضينا، فأنزل الله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.
وأخرج مسدّد في مسنده وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي أن رجلا من المسلمين، فذكر نحوه، وفيه: أن الرجل الذي أضاف: ثابت بن قيس بن شماس، فنزلت فيه هذه الآية.
وأخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا، فبعث به إليه، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر، حتى تداولها أهل سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الآية.
المناسبة:
بعد بيان ما حل ببني النضير في الدنيا من تخريب بيوتهم، وتحريق نخيلهم وتقطيعها، ثم إجلائهم إلى الشام، ثم الإخبار عن عذابهم في الآخرة، ذكر الله تعالى حكم الأموال التي أخذت منهم، فهي فيء، ثم ذكر تعالى حكم الفيء بصفة عامة، لبيان الفرق بين الغنيمة التي تؤخذ بقتال، والفيء الذي يؤخذ صلحا بغير قتال.
وإنما أخذت أموال بني النضير بغير قتال يذكر، بالرغم من حصارهم، لأنه لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان راكب جمل، فلما كانت المقاتلة قليلة، ولم يكن خيل ولا ركاب، أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا، وخص رسول الله ﷺ بتلك الأموال، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة.
التفسير والبيان:
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ أي ما ردّه الله تعالى على رسوله ﷺ وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير، فهو للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يحصل فيه قتال ولا حرب ولا تجشم مشقة، ولم
تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا، وإنما كانت من المدينة على ميلين، وافتتحت ديارهم صلحا، وأخذت أموالهم بعد جلائهم عنها، ولذا لم تقسم بين الغانمين، وإنما جعل الله أموال بني النضير لرسوله ﷺ خاصة لهذا السبب، يصرفه على مصالحه كيف يشاء.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله ﷺ خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته- أو قال: قوت سنته- وما بقي جعله في الكراع «١» والسلاح عدّة في سبيل الله عز وجل». وإنما قال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ لأنه الطائع لربه فيما يأمره به، وجدير بالمال أن يكون للمطيعين.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي ولكن الله بقدرته يسلط رسله على من يشاء من أعدائه، كما سلط محمدا ﷺ على بني النضير، فأخذ أموالهم دون قتال، والله قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء بمن يشاء، فإنه سبحانه هو الذي مكّن رسوله ﷺ من بني النضير.
ثم ذكر الله حكم الفيء، فصارت أموال الأعداء ثلاثة أنواع: الغنائم المنقولة المأخوذة قهرا التي توزع أخماسا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ..
[الأنفال ٨/ ٤١] والأموال المنقولة التي تؤخذ صلحا بلا إيجاف خيل ولا ركاب، فهي للرسول ﷺ خاصة، يصرفها كيف شاء بقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ.. وأموال الفيء العقارية التي توزع على المصالح العامة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله تعالى هنا:
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ ففي هذه الآية بيان مصارف الفيء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن كل ما رده الله على رسوله ﷺ من كفار أهل القرى، كقريظة والنضير وفدك وخيبر، صلحا من غير قتال، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، يحكم به الله بما يشاء، ثم يكون ملكا للرسول ﷺ في حياته، ثم في مصالح المسلمين من بعده، فينفق منه على قرابة النبي ﷺ وهم بنو هاشم وبنو المطلب الممنوعون من أخذ الصدقة أو الزكاة، فجعل لهم حقا في الفيء.
كما ينفق منه على اليتامى وهم الصغار الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، والمساكين الفقراء ذوي الحاجة والبؤس، وأبناء السبيل المنقطعين في أثناء السفر، وهم الغرباء الذين نفدت نفقتهم في سفرهم.
فيكون الفيء مقسوما خمسة أقسام: سهم الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، هو للرسول ﷺ في حياته، ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته، وسهم ذوي القربى أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة.
أما الغنيمة: فيصرف خمسها لهؤلاء الخمسة المذكورين في هذه الآية وآية الغنائم: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.. والأربعة أخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة.
وعلة هذا التقسيم ما قال الله تعالى:
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي حكمنا بهذه القسمة بين هؤلاء المذكورين، لئلا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء، ولا يصيب الفقراء منه شيء، فيغلب الأغنياء الفقراء، ويقسمونه بينهم. وهذا مبدأ إغناء الجميع، وتحقيق السيولة للكل.
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أي ما أمركم به الرسول ﷺ فافعلوه، وما منعكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر، فإذا أعطاكم الرسول ﷺ شيئا من الفيء مثلا، فخذوه، فهو حلال، وإذا منعكم شيئا منه، فلا تقربوه، فإنه يعمل بالوحي ولا ينطق عن الهوى. والآية توجب امتثال أوامر الرسول ﷺ ونواهيه أيضا.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»
وأخرج أحمد والشيخان صاحبا الصحيحين أيضا وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلجات للحسن «١»، المغيّرات لخلق الله عز وجل» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد في البيت، يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن، فجاءت إليه، فقالت: بلغني أنك قلت كيت وكيت، فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله تعالى، فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه، فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه، فقد وجدتيه أما قرأت:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإن رسول الله ﷺ نهى عنه».
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي خافوا الله بامتثال أوامره، وترك زواجره ونواهيه، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره وأباه، وارتكب ما زجر عنه ونهاه. والآية تتناول كل ما يجب فيه التقوى، وتحث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
وبعد بيان مصارف الفيء، بيّن الله تعالى حال الفقراء المستحقين له، فقال:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إن هؤلاء الأصناف الأربعة (وهم ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل) هم فقراء المهاجرين والأنصار والتابعين. وفقراء المهاجرين: هم الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج منها، وإلى ترك أموالهم وديارهم فيها، طلبا لمرضاة الله وفضله ورزقه في الدنيا، وثوابه ورضوانه في الآخرة، ونصرة الله تعالى ورسوله ﷺ بمجاهدة الكفار، وإعلاء كلمة الله ودينه، أي إن الخمس يصرف للمذكور في الآية: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وتكون الأخماس الأربعة الباقية للفقراء المهاجرين ومن جاء بعدهم «١».
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي هؤلاء المهاجرون هم الكاملون في الصدق، الراسخون فيه، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم، وقرنوا إيمانهم بالعمل المخلص.
ثم مدح الله تعالى الأنصار، وأبان فضلهم وشرفهم، وعدم حسدهم، وإيثارهم المهاجرين مع الحاجة، ورضاهم بإعطاء الفيء لهم، فقال:
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي والذين سكنوا المدينة دار الهجرة، وتمكّن الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ في قلوبهم، قبل هجرة المهاجرين، وهم الأنصار، يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حسدا أو غيظا أو حزازة للمهاجرين مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء، بل طابت أنفسهم بذلك، مع أنهم كانوا في دور الأنصار، وقدّموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا، ولو
كان بهم حاجة وفقر. ويلاحظ أن كل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته، فهو حاجة. والإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية، والرغبة في الحظوظ الدينية.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي من كفاه الله حرص نفسه وبخلها، وحفظ من ذلك، فأدى ما أوجبه الشرع عليه في مال من زكاة أو حق، فقد فاز ونجح، وظفر بكل المنى والمطلوب.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس بن مالك مرفوعا: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا»
وروي أيضا عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا يجتمع... ».
وأخرج أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا».
والآية دليل على اتصاف الأنصار بصفات خمس: هي استيطانهم دار الهجرة مسبقا وجعل الإيمان مستقرا ووطنا لهم، ومحبتهم إخوانهم المهاجرين، وترفعهم عن الجشع والطمع والحسد والحزازة، وإيثارهم المحتاجين على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة، واتصافهم بالجود والبعد عن الشح، لذا وصفوا بأنهم المفلحون الظافرون بما أرادوا.
ثم وصف الله القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم متابعون بإحسان، فقال:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان، كما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة ٩/ ١٠٠] يقولون أي قائلين: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا السلف الصالح من المهاجرين والأنصار، وانزع من قلوبنا الغش والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة، فإنك يا ربنا بالغ الرأفة كثير الرحمة، فاقبل دعاءنا.
والتابعون لهم بإحسان: هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية.
والآية دليل على تضامن وتكافل آخر الأمة وأولها وأجيالها، وعلى وجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وتقدير أخوتهم في الدين والسبق إلى الإيمان، والحث على الدعاء لهم بخير، وعلى صفاء القلوب من أمراض الحقد والحسد لأي مؤمن.
قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ: هذه لرسول الله ﷺ خاصة، وقرى عرينة وكذا وكذا مما أفاء الله تعالى على رسوله ﷺ من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم،
والذين جاؤوا من بعدهم، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق «١».
وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ... حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة ٩/ ٦٠] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى... الآية [الأنفال ٨/ ٤١] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى حتى بلغ لِلْفُقَراءِ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي، وهو بسرو حمير، نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه «٢».
قال الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار، أو الذين جاؤوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية «٣».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- كانت أموال بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله ﷺ من
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٣٩- ٣٤٠
(٣) تفسير الرازي: ٢٩/ ٢٨٨
غير قتال ولا حرب ولا مشقة للنبي ﷺ خاصّة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي ﷺ بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، هم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمّة.
٢- أموال الفيء: هي- كمال قال ابن عباس- قريظة والنضير، وهما بالمدينة، وفدك وهي على ثلاثة أيام من المدينة، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم.
٣- الأموال التي للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع: الصدقات والزكوات: وهي ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم. والثاني- الغنائم:
وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث- الفيء: وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام، ولا وارث له.
أما الزكاة (أو الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ...
[براءة ٩/ ٦٠].
وأما الغنائم الحربية: فكانت في صدر الإسلام للنبي ﷺ يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة الأنفال: قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ثم نسخ بقوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية [الأنفال ٨/ ٤١] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى، والأربعة أخماس الباقية للغانمين.
وأما الفيء وهو العقار: فالأمر فبه عند المالكية للإمام، يفعل ما يراه
مصلحة، من قسمته كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة، كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق ومصر وغيرهما، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ... إلى قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية «١». وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات لآية الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ.... وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة، وقال الحنفية: تقسم الغنائم- أي المنقولات- على النحو الذي ذكره الله في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ... الخمس لمن ذكرت الآية، والباقي للغانمين، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم على ثلاثة أسهم فقط:
سهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى، في الخمس فهو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي ﷺ سقط بموته، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في قسمة العقار، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين.
وتكون آية الحشر الثانية: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار. روى مالك أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله ﷺ خيبر.
وذهب الشافعية إلى أن حكم الفيء والغنيمة واحد، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص القرآني: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ بجامع أن كلّا منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون، وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره، فلا تأثير له، فعلى الإمام قسمة العقار، ومن طاب نفسا عن حقه، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين.
وتقسم الغنيمة في رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم، أولها- سهم المصالح (سهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم) أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها- سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
٤- علة قسمة الفيء: إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء، كما كانوا يستأثرون بالغنيمة، وكانوا يغترون به، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع الثروة في يد فئة قليلة، وحرمان الأكثرية من سيولة المال.
٥- قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ... دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب جميع نواهيه، فإنه لا يأمر إلا بصلاح، ولا ينهى إلا عن فساد.
وقد استدل الصحابة كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي ﷺ عنها، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج الأسنان، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي ﷺ بالاقتداء به في
قوله: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر»
وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤكده
قوله صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة-: «ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا».
وأمر الرسول ﷺ أمر الله تعالى، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠]
وعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» «١»
٦- دل قوله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ على وجوب اتقاء عذاب الله، فإنه شديد على من عصاه، وعلى وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيّع، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما أمره به.
٧- المقصود بأولئك الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء: وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ هم هؤلاء الأصناف من الفقراء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان.
٨- وصف الله تعالى المهاجرين بأوصاف ستة: أولها- أنهم فقراء، وثانيها- أنهم مهاجرون، وثالثها- أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ورابعها- أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والفضل: ثواب الجنة، والرضوان قوله تعالى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة ٩/ ٧٢]، وخامسها- وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، وسادسها- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في دينهم، لهجر هم لذات الدنيا، وتحملهم شدائدها.
وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فقال:
هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.
٩- أثنى الله على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ أعطي
للمهاجرين دونهم، ووصفهم أيضا بأوصاف ستة: أولها- أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه، وثانيها- محبتهم الخالصة للمهاجرين، وثالثها- لا يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، ورابعها- إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة، وخامسها- وقاهم الله من مرض الشح، وسادسها- هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا.
١٠- استدل الإمام مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ الآية. وقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف.
١١- الأولى أن يقال: إن الآيات متعلقة ببعضها، معطوف بعضها على بعض، فتكون آية: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا معطوفة على قوله: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وآية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل:
المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل.
١٢- آية: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبّهم أو سب واحدا منهم، أو اعتقد فيه شرا، فإنه لا حق له في الفيء.
١٣- آيات الحشر هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على
مصالحهم، كما فعل عمر رضي الله عنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة عنوة، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء، وجعله لثلاث طوائف:
المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، فقوله تعالى:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ | عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين. |
أي متقدمهم حتى يردوا، فبين ﷺ أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم.
١٤- دل قوله تعالى: يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله ﷺ حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتجسّروا الناس عليهم.
أما من يلعن أو يسب بعض الصحابة فهو فاسق، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه، وروح الدين وصفائه، متنكر لأهل الفضل والسبق، مبتدع ضال، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو أزواج النبي ﷺ ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به، أدى ذلك إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى. صفحة رقم 92