آيات من القرآن الكريم

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ
ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ

المنَاسَبَة: لما نهى تعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباغض والتنافر، أمرهم بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودَّة، وهو التوسع في المجالس بأن يفسح بعضهم لبعض، ثم حذَّر من موالاة أعداء الله، وختم السورة الكريمة ببيان أوصاف المؤمنين الكاملين.
اللغَة: ﴿تَفَسَّحُواْ﴾ توسَّعوا يقال: فسح له في المجلس أي وسَّع له، منه مكان فسيح اي واسع ﴿انشزوا﴾ انهضوا وارتفعوا يقال: نشز ينشُز إِذا تنحَّى من مجلسه وارتفع منه، وأصله من النَّشز

صفحة رقم 320

وهو ما ارتفع من الأرض ﴿جُنَّةً﴾ بضم الجيم وقاية ﴿استحوذ﴾ استولى وغلب على عقولهم ﴿الأذلين﴾ الأذلاء المغمورين في الذل والهوان.
سَبَبُ النّزول: أعن مقاتل قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناسٌ من أهل بدر فيهم» ثابت بن قيس «وقد سُبقوا إِلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسَّع لهم فلم يفسحوا لهم، فشقَّ ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان، فم يا قلان، بعدد الواقفين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وطعن المنافقون في ذلك وقالوا: ما عدل هؤلاء، قوم أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه!! فأنزل الله تعالى ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ..﴾ » الآية.
ب عن ابن عباس قال: «إن الناس سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأكثروا عليه حتى شقَّ ذلك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد الله أن يخفّف عن نبيه ويثبِّطهم عن ذلك فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً..﴾ الآية فلما نزلت جبن كثير من المسلمين وكفَّوا عن المسألة.
ج قال السدي:»
كان «عبد الله بن نبتل» المنافق يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حجرةٍ من حجراته إِذ قال يدخل عليكم الآن رجلٌ قلبه قلبُ جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل فعلت، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبُّوه فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ «.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ﴾ نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا﴾ أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس سواءً كان مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره من المجالس فتوسعوا وافسحوا له ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ﴾ أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث»
لايقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم «قال الإِمام الفخر: وقوله ﴿يَفْسَحِ الله لَكُمْ﴾ مطلٌ

صفحة رقم 321

في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، الرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث
«لايزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه» ﴿وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ﴾ أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا قال في البحر: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليسبعالم درجات وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» فأعظمْ بمنزلةٍ هي واسطةٌ بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول﴾ أي إِذا أردتم محادثته سراً ﴿فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ أي تقديم الصدقاتن قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾ عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السموات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ

صفحة رقم 322

تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم قال المفسرون: نسخ الله ذلك تخفيفاً على العباد حتى قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «آية في كتاب الله لم يعمل بها على أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخ فضعيفٌ لأن الله تعالى قال ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ﴾ وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم﴾ تعجيبٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله
﴿مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠] وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين ﴿مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ﴾ أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ [النساء: ٤٣] قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعملون أنهم كذبة فجرة قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ أي هيأ لهم تعالى بسبب نفاقهم عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم
﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ [النساء: ١٤٥] ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا ﴿اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل قال في التسهيل: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين ﴿فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة ﴿لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أولئك أَصْحَابُ النار

صفحة رقم 323

هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً﴾ أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون قال بان عباس: هو قولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ﴾ أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون﴾ أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله﴾ أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم تملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾ أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة، لأنهم فوَّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما ﴿أولئك فِي الأذلين﴾ أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله ﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين ﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجو أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت ﴿تَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبٌّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير قال الإِمام الفخر: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان ﴿وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشير، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله قال في البحر: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على

صفحة رقم 324

الأعداء كما قال القائل:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت ﴿وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ﴾ في «أبي عبيدة» قتل أباه الجراح يوم بدر، ﴿أَوْ أَبْنَآءَهُمْ﴾ في الصِّديق همَّ بقتل انبه «عبد الرحمن بن أبي بكر» ﴿أَوْ إِخْوَانَهُمْ﴾ في مُصعب بن عمير قتلا أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ ﴿أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر ﴿أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان﴾ أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم، فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ أي وقوَّاهم بنصره وتأييده قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، سمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ما كثين فيها أبد الآبدين ﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعدد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الألقاب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم ﴿أولئك حِزْبُ الله﴾ أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - صيغة المبالغة في ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: ١] وفي ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وفي ﴿على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المجادلة: ٦].
٢ - الإِطناب بذكر الأُمهات ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [المجادلة: ٢] زيادةً في التقرير والبيان.
٣ - الطباق ﴿وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ﴾ [المجادلة: ٧] لأن معنى أدنى أقل فصار الطباق بينها وبين أكثر.
٤ - عطف الخاص على العام تنبيهاً على شرفه ﴿يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ﴾ فإن ﴿والذين أُوتُواْ العلم﴾ دخلوا في المؤمنين أولاً ثم خصوا بالذكر ثانياً تعظيماً لهم.
٥ - الاستعارة ﴿فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ استعار اليدين لمعنى قبل أي قبل نجواكم.
٦ - الاستفهام والمراد منه التعجيب ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم..﴾.
٧ - الجناس الناقص بين ﴿يَعْلَمُونَ﴾ و ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لتغير الرسم.
٨ - المقابلة بين ﴿أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾ وبين ﴿أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ..﴾ الآية.

صفحة رقم 325

٩ - تحلية الجملة بفنون المؤكدات مثل: «ألا، وإِنَّ، وهم» في قوله ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون﴾.
١٠ - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل ﴿الخاسرون، الكاذبون، خالدون، يعملون﴾.
لطيفَة: روى الإِمام أحمد عن أبي الطفيل أن «نافع بن عبد الحارث» لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل البوداي؟ فقال: استخلفت عليهم: «ابن أبزى» فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنه قارىءٌ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما إِن نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إِن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين».

صفحة رقم 326
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية