
من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجيه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة «١». ويستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب الجمهور، وسواء أكان التناجي في مندوب أم مباح أم واجب، فإن الإساءة تشمله «٢».
أدب المجالسة في الإسلام
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)
البلاغة:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء، مع أنهم داخلون في المؤمنين.
المفردات اللغوية:
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيها، وليفسح بعضكم عن بعض، يقال: افسح عني، أي
(٢) تفسير القرطبي: ١٧/ ٢٩٥

تنّح، وقرئ: «في المجلس»، والمراد به الجنس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ يوسع الله لكم في رحمته، من المكان والصدر والرزق والجنة وغيرها. انْشُزُوا انهضوا للتوسعة على القادمين، أو ارتفعوا في المجلس، أي تنحوا من الموضع، ويقال: امرأة ناشز، أي منتحية عن زوجها. فَانْشُزُوا فانهضوا دون تباطؤ. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا، والإيواء في غرف الجنان في الآخرة. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة، لجمعهم بين العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة رفعة،
جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «١».
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم مطلع على جميع أعمالكم، وهو تهديد لمن لم يمتثل الأمر.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا، ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام ﷺ نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات، والتناجي بالإثم والعدوان، لكونه سبب التباغض والتنافر، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من التوسع في المجالس، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما، ثم أخبر عن رفع منازل المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.

التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس، وعدم التضايق فيها، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في الجنة، أي إن الجزاء من جنس العمل.
والآية عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم، أو يوم جمعة أو عيد، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه.
جاء في الحديث الثابت عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» «١».
قال: الرازي: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «٢».
(٢) تفسير الرازي: ٢٩/ ٢٦٩، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول ﷺ لسماع حديثه، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.
وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله ﷺ كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس، يكون صدر ذلك المجلس، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان علي، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك
، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي ﷺ كان يقول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»
وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك، محتجا
بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيدكم»
وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي ﷺ حاكما في بني قريظة.
ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان: «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
ومنهم من فصّل، فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة، ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك «١».
وَإِذا قِيلَ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين، وأهل العلم بشرع الله، فليقوموا.
وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا، ينبغي أن يجاب.
وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء، وعدهم على الطاعات، فقال:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم على أعمالهم جميعا، خيرا أو شرا.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما، ويضع به آخرين».

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
١- التوسع في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا، وأدب حسن، سواء كان مجلس النبي في عصره، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو العلم ونحوه، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه،
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» «١»
ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم عن النبي ﷺ قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه»
وعن ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا»
وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه.
٢- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما
روى مسلم عن جابر عن النبي ﷺ قال: «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا».
وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكانا يقعد فيه، لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع. ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد.
والجالس يختص بموضعه إلى أن يغادره نهائيا، لما
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا قام أحدكم- أو من قام من مجلسه- ثم رجع إليه، فهو أحق به».

٣- إن للتوسع في المجالس ثوابا، لقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة.
٤- إذا قيل: انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، يجاب القائل، وإذا دعي الشخص إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجب القيام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد.
وإذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: (قوموا) ينبغي أن يجاب، ويفعل ذلك لحاجة، إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها، مما لا نزاع في جوازه.
٥- يرفع الله درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية.
وتدل هذه الآية: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ... أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان، لا بالسبق إلى صدور المجالس، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العلماء، منها
الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ- وفيه ضعف-: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»
ومنها
حديث حسن رواه ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه.