
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَا حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يتناجَينَّ اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ". وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ (١)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ وَأَبِي كَامِلٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهِ (٢)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُؤَدِّبًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَآمِرًا لَهُمْ أَنْ يُحْسِنَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمَجَالِسِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ﴾ وَقُرِئَ ﴿فِي الْمَجْلِسِ﴾ ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" (٣) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "وَمَنْ يَسَّر عَلَى مُعْسِر يَسَّر اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، [وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ] (٤) وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" (٥) وَلِهَذَا أَشْبَاهٌ كَثِيرَةٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَجَالِسِ (٦) الذِّكْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوْا أَحَدَهُمْ مُقْبِلًا ضَنّوا بِمَجَالِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُفْسِحَ بعضهم لبعض.
وقال مقاتل ابن حَيَّانَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ جُمُعة وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجَالِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ، فَلَمْ يُفْسَح لَهُمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ: "قُمْ يَا فلان، وأنت يا فلان". فلم يزل
(٢) صحيح مسلم برقم (٢١٨٣).
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٤٥٠) ومسلم في صحيحه برقم (٥٣٣) من حديث عثمان، رضي الله عنه.
(٤) زيادة من صحيح مسلم (٢٦٩٩).
(٥) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٦٩٩) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٦) في م: "في مجلس".

يُقِيمُهُمْ بِعِدَّةِ (١) النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرَاهَةَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ؟ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَاهُ قبلُ عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِنَّ قَوْمًا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ وَأَحَبُّوا الْقُرْبَ لِنَبِيِّهِمْ، فَأَقَامَهُمْ وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ. فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا فَسَح (٢) لِأَخِيهِ". فَجَعَلُوا يَقُومُونَ بَعْدَ ذَلِكَ سِرَاعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لِإِخْوَانِهِمْ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يوم الجمعة. رواه بن أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَيَجْلِسَ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا".
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ، بِهِ (٣)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُقِيمَنَّ أحدُكم أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: افْسَحُوا". عَلَى شَرْطِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ (٤)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا فُلَيْح، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [أَبِي] (٥) صَعْصَعة، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُقِمِ الرجلُ الرجلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسْ فِيهِ، وَلَكِنِ افْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ" (٦)
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ سُرَيج (٧) بْنِ يُونُسَ، وَيُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ فُلَيْح، بِهِ. وَلَفْظُهُ: "لَا يَقُومُ الرجلُ لِلرَّجُلِ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَلَكِنِ افْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٨)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِلْوَارِدِ إِذَا جَاءَ عَلَى أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ" (٩) وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِحَدِيثِ: "مَنْ أحَبَّ أَنْ يَتَمثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ" (١٠) وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ، وَلِلْحَاكِمِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قِصَّةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ لِمَا اسْتَقْدَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاكمًا
(٢) في م، أ: "يفسح".
(٣) لم يقع هذا الحديث لي في مسند أحمد هكذا، وإنما هو فيه (٢/٢٢) : عن ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عمر، (٢/٤٥) عن غندر، عن شعبة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر. وهو في صحيح البخاري برقم (٦٢٦٩) وصحيح مسلم برقم (٢١٧٧).
(٤) مسند الشافعي برقم (٤٥٤) "بدائع المنن".
(٥) زيادة من المسند (٢/٥٢٣).
(٦) المسند (٢/٥٢٣).
(٧) في م، أ: "شريح".
(٨) المسند (٢/٣٣٨).
(٩) رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٠٤٣) ومسلم في صحيحه برقم (١٧٦٨) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(١٠) رواه أبو داود في السنن برقم (٥٢٢٩) والترمذي في السنن برقم (٢٧٥٥) من حديث معاوية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "إسناد حسن".

فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَرَآهُ مُقْبِلًا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ دَيْدَنًا فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْعَجَمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَا يَقُومُونَ لَهُ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ (١) لِذَلِكَ (٢) (٣)
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَلَكِنْ حَيْثُ يَجْلِسُ يَكُونُ صَدْرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يَجْلِسُونَ مِنْهُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، فَالصِّدِّيقُ يُجْلِسُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَالِبًا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يَكْتُبُ (٤) الْوَحْيَ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمَا بِذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَر، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "لِيَليني منكم أولوا الْأَحْلَامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (٥) وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنْهُ مَا يَقُولُهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ أُولَئِكَ النَّفَرَ بِالْقِيَامِ لِيَجْلِسَ الَّذِينَ وَرَدُوا مَنْ أَهْلِ بَدْرٍ، إِمَّا لِتَقْصِيرِ أُولَئِكَ فِي حَقِّ الْبَدْرِيِّينَ، أَوْ لِيَأْخُذَ الْبَدْرِيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ بِنَصِيبِهِمْ، كَمَا أَخَذَ أُولَئِكَ قَبْلَهُمْ، أَوْ تَعْلِيمًا بِتَقْدِيمِ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْأَمَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارة بْنِ عُمَيْرٍ (٦) التَّيْمِيِّ (٧) عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ والنُّهى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ (٨) فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا.
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ، إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (٩)
وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرَهُ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَلِيَهُ الْعُقَلَاءُ (١٠) ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، فَبِطْرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وسُدّوا الْخَلَلَ، ولِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَروا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ الله" (١١)
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٢٧٥٤) من حديث أنس، رضي الله عنه.
(٣) وللإمام النووي-رحمه الله-رسالة سماها: "الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام" أطنب في الكلام على هذه المسألة، وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
(٤) في م: "يكتبان".
(٥) صحيح مسلم برقم (٤٣٢).
(٦) في أ: "بكير".
(٧) في م، أ: "الليثي".
(٨) في أ: "سعيد".
(٩) المسند (٤/١٢٢) وصحيح مسلم برقم (٤٣٢) وسنن أبي داود برقم (٦٧٤) وسنن النسائي (٢/٨٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٧٦).
(١٠) في أ: "الفضلاء".
(١١) سنن أبي داود برقم (٦٦٦).

وَلِهَذَا كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ -سَيِّدُ الْقُرَّاءِ-إِذَا انْتَهَى إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ انْتَزَعَ مِنْهُ رَجُلًا يَكُونُ مِنْ أَفْنَاءِ (١) النَّاسِ، وَيَدْخُلُ هُوَ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ: "لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى". وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَكَانَ لَا يَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَقُومُ لَهُ صَاحِبُهُ عَنْهُ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ. وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ (٢) مِنَ الْأُنْمُوذَجِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَّا فَبَسْطُهُ يَحْتَاجُ (٣) إِلَى غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمْ فَوَجَدَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ وَرَاءَ النَّاسِ، وَأَدْبَرَ الثَّالِثُ ذَاهِبًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أنبئكم بِخَبَرِ الثَّلَاثَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَآوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ" (٤)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَتَّاب بْنُ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، بِهِ (٥) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَدْ رُوي عن بن عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا (٦) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ فَافْسَحُوا﴾ (٧) يَعْنِي: فِي مَجَالِسِ الْحَرْبِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ أَيِ: انْهَضُوا لِلْقِتَالِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ أَيْ: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى خَيْرٍ فَأَجِيبُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ [بْنُ حَيَّانَ] (٨) إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَارْتَفِعُوا إِلَيْهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانُوا إِذَا كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ فَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ أَحَبَّ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هُوَ آخِرَهُمْ خُرُوجًا مِنْ عِنْدِهِ، فَرُبَّمَا يَشُقُّ (٩) ذَلِكَ عَلَيْهِ-عَلَيْهِ السَّلَامُ-وَقَدْ تَكُونُ لَهُ (١٠) الْحَاجَةُ، فَأُمِرُوا أَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالِانْصِرَافِ أَنْ يَنْصَرِفُوا، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا﴾ [النُّورِ: ٢٨] (١١)
وَقَوْلُهُ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّهُ إِذَا فَسَح أَحَدٌ مِنْكُمْ لِأَخِيهِ إِذَا أَقْبَلَ، أَوْ إِذَا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي حَقِّهِ، بَلْ هُوَ رِفْعَةٌ وَمَزِيَّةٌ (١٢) عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُضَيِّعُ ذَلِكَ لَهُ، بَلْ يَجْزِيهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِأَمْرِ اللَّهِ رَفَع اللَّهُ قَدْرَهُ، ونَشَر ذِكْرَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
(٢) في م: "القدر".
(٣) في م: "محتاج".
(٤) رواه البخاري في صحيحه برقم (٦٦) ومسلم في صحيحه برقم (٢١٧٦).
(٥) المسند (٢/٢١٣) وسنن أبي داود برقم (٤٨٤٥) وسنن الترمذي برقم (٢٧٥٢).
(٦) في م، أ: "أنهما قالا".
(٧) في أ: "المجالس".
(٨) زيادة من م.
(٩) في م: "شق".
(١٠) في م: "لهم".
(١١) في م: "وإذا قيل ارجعوا" وهو خطأ.
(١٢) في م: "ورتبة"، وفي أ: "ومنزلة"

أَيْ: خَبِيرٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ وَبِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَا ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ مَوَالِينَا. فَقَالَ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] (١) اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَاضٍ. فَقَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ قَوْمًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" (٢)
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (٣) وَقَدْ ذَكَرْتُ (٤) فَضْلَ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُسْتَقْصَاةً فِي شَرْحِ "كِتَابِ الْعِلْمِ" مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(٢) المسند (١/٣٥).
(٣) جاء من طريق حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بن مسلم: أن عمر استعمل ابن عبد الحارث على مكة، فذكر نحوه، أخرجه أبو يعلى في مسنده (١/١٨٥) وفيه انقطاع. وأيضا من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: خرجت مع عمر، فاستقبلنا أمير مكة-نافع بن علقمة-فذكر نحو الحديث المتقدم، أخرجه أبو يعلى في مسنده (١/١٨٦).
(٤) في م: "ذكرنا".