
فضلها:
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عرباض بن سارية أنه حدّث أن رسول الله ﷺ كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، وقال: «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وهي قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
التسبيح لله في جميع الأوقات وأسبابه
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
الإعراب:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ مَعَكُمْ ظرف متعلق بفعل مقدر، تقديره: وهو شاهد معكم.
البلاغة:
يُحْيِي وَيُمِيتُ بينهما طباق، وكذا بين الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وبين الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ووَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها بينهما مقابلة. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فيه رد العجز على الصدر. صفحة رقم 289

المفردات اللغوية:
سَبَّحَ لِلَّهِ أي نزهه كل شيء من كل نقص وعما لا يليق به من صفات الحوادث كالشريك والولد، وإنما عدّي باللام وهو معدّى بنفسه، مثل نصحت له ونصحته، إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصا لوجهه. وذكر في القرآن: سَبَّحَ كما في آخر السورة السابقة الواقعة وأول الأعلى للأمر بالتسبيح، وذكر هنا وفي الحشر والصف بلفظ الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، وكله يدل على الديمومة والاستمرار، وأن ذلك ديدن من في السموات والأرض، وجاء بلفظ المصدر سُبْحانَ أول الإسراء، إشعارا بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال.
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جيء ب ما وليس «من» تغليبا للأكثر من غير العقلاء.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي في ملكه فلا ينازعه فيه شيء، الحكيم في صنعه، والجملة حال يشعر بما يدل على أنه الأهل للتسبيح مع استغنائه. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي إن سبب التسبيح كونه تعالى مالكا السموات والأرض، وله تمام التصرف في الملك، وهو إيجاد ما شاء، وإعدام ما شاء بقدرته على الإحياء والإماتة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر تام القدرة على كل شيء من الإحياء والإماتة وغيرهما.
هُوَ الْأَوَّلُ السابق على سائر الموجودات، والموجود قبل كل شيء بلا بداية، لأنه موجد الأشياء ومحدثها. وَالْآخِرُ الباقي بعد فناء الموجودات، والموجود بعد كل شيء بلا نهاية.
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الظاهر وجوده لكثرة دلائله، والباطن: حقيقة ذاته، فلا تحيط به العقول والحواس، وخفيت عنه ذاته، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله، وباطن بذاته. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الكرسي استواء يليق به. يَلِجُ يدخل. فِي الْأَرْضِ من كنوز ومعادن وبذور ومطر وأموات. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات والمعادن لمنفعة الناس.
وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر والرحمة والملائكة والعذاب وغير ذلك. وَما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة والأعمال والدعوات. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بعلمه وقدرته، لا يفارقكم بحال، فليس المراد المعية بالذات. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم عليه، وتقديم الخلق في الآية على العلم، لأنه دليل عليه.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ الموجودات جميعها. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقص، فيزيد الليل وينقص النهار تارة، وعلى العكس تارة أخرى. وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما فيها من الأسرار والمكنونات، والنوايا والخفايا والمعتقدات.

التفسير والبيان:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي نزّه الله تعالى عن كل نقص وعما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض من الجماد والنبات والإنسان والحيوان، تعظيما له وإقرارا بربوبيته، سواء بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجن، أو بلسان الحال، كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء ١٧/ ٤٤] فتسبيح العقلاء: تنزيه وتقديس وعبادة، وتسبيح غيرهم إقرار واعتراف بالصانع.
والله هو القوي القادر الغالب الذي خضع له كل شيء، ولا ينازعه أحد في ملكه، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه وشرعه، يتصرف على وفق الحكمة والصواب. وهذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، تدل على أنه تعالى مبدأ التسبيح مع الاستغناء عنه.
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي لله تعالى الملك المطلق للسموات والأرض، يتصرف فيهما وحده، وله السلطان التام، وهو نافذ الأمر، فلا ينفذ غير تصرفه، وهو المالك المتصرف في خلقه، فيحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ويعطي من يشاء ما يشاء، وهو تام القدرة، لا يعجزه شيء، كائنا ما كان، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله هو الأول قبل كل شيء، قيل، وهو غير
حديث: «كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني»
وهو الآخر الباقي بعد كل شيء، بعد فناء خلقه، كما قال سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص ٢٨/ ٨٨].

وهو الظاهر العالي فوق كل شيء، الغالب على كل شيء، والباطن العالم بما بطن، ولا تعرف العقول ذاته على حقيقتها، ولا تدركه الحواس، وهو ذو علم تام بكل شيء، لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي الله الذي أوجد وأبدع السموات والأرض في أيام ستة الله أعلم بمقدارها، وفي ستة أطوار مختلفة، وهو القادر على خلقها في لحظة، ولكن هذا العدد لتعليم العباد التأني والتثبت في الأمور، ثم استوى على العرش أي الكرسي استواء يليق به، على نحو يريده، مما لا يعلم به إلا هو، وهذا رأي السلف، وهو الأولى احتياطا، ورأي الخلف تأويل الاستواء على العرش بتدبير الأمر وتفصيل الآيات والاستيلاء على مقاليد السلطة.
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي يعلم كل شيء، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك، ويخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن وغيرها، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد الصالحة والسيئة، والدعوات، والأبخرة المتصاعدة ونحو ذلك،
جاء في الحديث الصحيح: «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل».
ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩].

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي والله سبحانه مع عباده بقدرته وسلطانه وعلمه، أينما كانوا في البر والبحر والجو، والله رقيب عليهم بصير بأعمالهم، لا يخفى عليه شيء منها.
قال أبو حيان: وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات، وهي حجة على من منع التأويل في غيرها، مما يجري مجراها من استحالة الحمل على ظاهرها «١».
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي هو المالك للدنيا والآخرة. كما قال تعالى: وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى [الليل ٩٢/ ١٣] فلا راد لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص ٢٨/ ٧٠] ومرجع جميع الأمور إلى الله وحده لا إلى غيره يوم القيامة، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور، ولا يظلم مثقال ذرة.
وقوله: لَهُ مُلْكُ.. هذا التكرير للتأكيد، أو أنه وما بعده ليس بتكرار، لأن الكلام الأول في الدنيا لقوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ والثاني في العقبى والآخرة لقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن الله سبحانه هو المتصرف في الخلق، يقلّب الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل، ويقصر النهار، وتارة بالعكس، وتارة يتركهما معتدلين، وتتوالى الفصول الأربعة بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وهو يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها، وإن خفيت، لا يخفى عليه من ذلك خافية، سواء الظاهر والباطن.

وهذا حث على التأمل في ملكوت الله، وشكر على ما أنعم، وتنزيه على كل ما لا يليق به. والخلاصة: أن هذه الآيات إخبار بتسبيح كل شيء الله، وبيان موجبات التسبيح.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- مجّد الله ونزّهه عن السوء في الذات والصفات والأسماء والأفعال كلّ شيء في الأرض والسماء، سواء بالنطق والمقال الصريح، أم بلسان الحال والدلالة وظهور آثار الصنعة: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
٢- إن موجبات التسبيح كون الله العزيز الغالب في ملكه، الحكيم في صنعه، المالك المتصرف في السموات والأرض، المستغني في ذاته وفي جميع صفاته عن كل ما عداه، ويحتاج كل ما عداه إليه في ذواتهم وفي صفاتهم، والنافذ الأمر، المالك القادر القاهر، الذي لا يعجزه شيء.
٣- ومن موجباته أيضا أنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الغالب الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وهو تام العلم بما كان أو يكون، فلا يخفى عليه شيء.
وهذا دليل على أنه تعالى قبل كل شيء، ومتقدم على ما سواه تأثيرا وطبعا وشرفا ومكانا وزمانا، أي أنه سبحانه قبل المكان وقبل الزمان. وهو إله لجميع الممكنات والكائنات، وإله للعرش والسموات والأرضين، وعالم بظواهرنا وبواطننا.
٤- ومما يوجب تسبيحه أنه خالق السموات والأرض ومبدعهما، صاحب