
بِالْغَيْبِ} [البقرة: ٣].
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ﴾ في أمره، ﴿عَزِيزٌ﴾ في ملكه. قال مقاتل (١): وفيه بيان أنه غني عن خلقه وعن نصرتهم بعزه وقوته.
٢٧ - وما بعد هذا ظاهر ومفسر فيما تقدم، إلى قوله: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ قال ابن عباس يريد الحواريين وأتباعهم (٢).
﴿رَأْفَةً وَرَحْمَةً﴾ قال مقاتل (٣): يعني المودة كانوا متوادين بعضهم لبعض كما وصف الله تعالى أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩].
قوله تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ هي اسم مبني من الرهبة، وقد مضى الكلام في تفسير الرهبان (٤)، قال أبو إسحاق: وابتدعوا رهبانية كما تقول: رأيت زيدًا وعمرًا كلمته (٥).
وقال أبو علي: قوله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً﴾ محمول على فعل، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا (٦) مع وصفه إياها، بقوله: ابتدعوها؛ لأن ما يجعله هو -عَزَّ وَجَلَّ- لا
(٢) انظر: "الوسيط" ٤/ ٢٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠.
(٤) الآية (٤٠) من سورة البقرة. رهب، يرهب، رهبًا: أي خاف، والراهب: المتعبد في الصومعة.
وأصل الرهبانية من الرهبة ثم صارت اسمًا لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. "اللسان" ١/ ١٢٣٧ (رهب).
(٥) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٣.
(٦) في (ك): (جعلها).

يتبدعونه هم (١).
ومعنى ﴿ابْتَدَعُوهَا﴾ جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو معنى قوله: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس: ما فرضناها عليهم (٢).
ومعنى رهبانيتهم غلوهم في العبادة من حمل المشاق على أنفسهم في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح، والتعبد في الغيران والكهوف والديارات والصوامع، وسبب ذلك على ما قال المفسرون: أن ملوكهم بدلوا غيروا وأحدثوا أحداثًا في دينه وقاتلوهم الذين بقوا على دينهم، فقتل منهم الكثير ولم يبق إلا نفر قليل، فذهب هؤلاء النفر وخرجوا إلى البراري والجبال متبتلين، وابتدعوا الرهبانية (٣).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: يريد طلبوا رضي الله (٤).
وقال قتادة: ابتدعوها ابتغاء رضوان الله (٥)، وعلى هذا يكون التقدير: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فيكون استثناء منقطعًا.
وقال أبو إسحاق: ويكون ﴿ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ بدلاً من الهاء
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٤، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٣، ونسبه لابن زيد.
(٣) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨، سنن النسائي، كتاب آداب القضاة، باب: تأويل قوله -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، و"معالم التنزيل" ٤/ ١٠٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٣١٥ - ٣١٦.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٥، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٦، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨.

والألف (١)، فيكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به (٢) (٣)، هذا كلامه. ومعناه على هذا أن الابتغاء بدل من الضمير في كتبناها، كما تقول: ما رأيت القوم إلا زيدًا، والمعنى: ما كتبنا الرهبانية عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وهو أن يطلبوا رضاه باتباع أمره (٤).
قوله تعالى: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن هؤلاء الذين ذكرهم الله ووصفهم بتصنع الرهبانية وترك رعايتها هم قوم كفروا بدين عيسى وتهودوا وتنصروا من هؤلاء الذين أحدثوا الرهبانية ودخلوا في دين ملوكهم وتركوا الترهب وهو قول مقاتل، قال: لم يرعوها ولا أحسنوا حين تهودوا وتنصروا فأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به، فهو قوله: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ الذين تهودوا وتنصروا (٥).
ونحو هذا روى ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "منهم من تمسك بدينه وهم الذين قال الله ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ ومنهم من كفر، وهو قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (٦) وهذا قول الضحاك ورواية عطاء عن ابن
(٢) في (ك): (أمره).
(٣) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٣.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٣٦٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٦) هذا الحديث ذكره المؤلف بالمعنى، وهو حديث طويل أخرجه الحاكم في كتاب التفسير، سودة الحديد. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: قلت ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان موثقًا فإن شيخه منكر الحديث. =

عباس (١).
القول الثاني: أن الذين لم يرعوها حق رعايتهم (٢) الذين أدركوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمنوا به (٣).
قوله تعالى: ﴿فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ أي آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ يعني الذين لم يؤمنوا به، يدل على هذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" (٤).
القول الثالث: أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرض على ذلك طائفة منهم، وخلف بعدهم قوم اقتدوا بهم ولم يكونوا على منهاجهم، فهم الذين لم يرعوها حق رعايتها وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد (٥)، وعطاء.
(١) انظر: "الكشف والببان" ١٢/ ٧١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠١، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦٣.
(٢) كذا في (ك)، ولعل الصواب (رعايتها).
(٣) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٦.
(٤) جزء من الحديث السابق، وقد أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٧١ ب، وفي سنده: عقيل الجعدي أيضًا.
(٥) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٨.