
والذي ذكرنا من حذف الخبر قول الأخفش، قال: وحذف الخبر كير في القرآن كقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ﴾ [الرعد: ٣١] الآية، ولم يأت له خبر (١)، وقراءة العامة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وقرأ ابن عامر (فإن الله الغني) (٢). ومن أثبت (هو) كان فصلاً، ولا يكون مبتدأ والفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب وقد يحذف فلا يخل بالمعنى (٣).
٢٥ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال مقاتل بن حيان: البينات: الإخلاص لله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى ذلك دعت الرسل (٤). فالبينات على قول ابن سليمان الحجج (٥)، وعلى قول ابن حيان الأحكام في العبادة، والأول الوجه (٦)؛ لقوله (٧): ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾، والكتاب يتضمن الأحكام.
قوله تعالى: ﴿وَالْمِيزَانَ﴾ قال قتادة وابن حيان: الميزان: العدل (٨).
(٢) قرأ الجمهور ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (فإن الله الغني) انظر: "النشر" ٢/ ٣٨٤، و"الإتحاف" ص ٤١١.
(٣) انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٦/ ٢٧٦.
(٤) انظر: "التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩.
(٦) يظهر من قول المؤلف "والمعدل الوجه" سقط في العبارة قبل قوله: قال مقاتل بن حيان. ولعل العبارة كما في "تفسير مقاتل بن سليمان" هكذا (قال مقاتل بن سليمان: البينات: يعني الآيات).
(٧) في (ك): (كقوله).
(٨) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٧٥، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٢٩٩.

ويكون المعنى على. هذا وأمرنا بالعدل، وهذا كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ [الشورى: ١٧] وقد مر.
وقال مقاتل بن سليمان: يعني الموازين (١). وهو قول ابن زيد. قال: ما يوزن (٢) به.
وعلى هذا المعنى أنزلنا معهم الكتاب ووضعنا الميزان فيكون من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا (٣)
وأكلت خبزًا ولبنًا.
وقد مر في مواضع، يدل على صحة هذا قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٦].
قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ أي: ليتبعوا ما أمروا به من الطاعة والعدل فتعملوا بينهم بالعدل.
﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ قال الكلبي: أنزل الله على آدم القلاة والمطرقة
(٢) انظر: "جامع البيان" ٢٧/ ١٣٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦.
(٣) ورد في "البيت" في "الخصائص" ٢/ ٤٣١، و"الخزانة" ٣/ ١٣٩، و"إيضاح الشعر" للفارسي ص ٥٧٣، و"الإنصاف" ص ٦١٣، ونسبه إلى ذي الرمة وليس في ديوانه. وفي "أوضح المسالك" ٢/ ٢٤٥، رقم (٢٥٨) قال محققه: ولم أقف له على نسبة إلى قائل معين، ثم ذكر ثلاثة تخريجات للبيت ومن قال بكل قول. وتمام البيت:
حتى شتت حمالة عيناها
وانظر: "زاد المسير" ٨/ ٢١٢، و"البحر المحيط" ١/ ٢٤٧، و"شذرات الذهب" الشاهد رقم (١١٥).

والكلبتين (١).
وروي عن ابن عباس: نزل آدم من الجنة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة (٢).
ويدل على صحة هذا ما روى ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح" (٣) هذا مذهب المفسرين.
وذهب قوم إلى أن معنى أنزلنا الحديد أنشاناه وأحدثناه، كقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] وهو معنى قول مقاتل يقول: بأمرنا كان الحديد (٤)، وهذا قول أبي علي الفارسي.
وقال قطرب: معنى أنزلنا هيأنا وخلقنا من التنزل - يقال: أنزل الأمير على فلان نزلاً حسنًا (٥)، ومعنى الآية: أنعمنا بالحديد وجعلناه مهيأ لكم
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٧٠ أ، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤١ - ٢٤٢، والميقَعةُ: ما دُفعَ به السيف، وقيل: الميقعة المسن الطويل، و"اللسان" ٣/ ٩٦٨ (وقع).
(٣) أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ١٢/ ٧٠ ب، وقال ابن حجر: وفي إسناده من لا أعرفه. "تخريج أحاديث الكشاف" ٤/ ١٦٤، وفي "ضعيف الجامع" ٣/ ٧٧: موضوع، وفي "الطب النبوي" لابن القيم ص ٣٩٦، قال: ذكره البغوي مرفوعًا والموقف أشبه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
(٥) انظر: "الكشف والبيان" ١٢/ ٧٠ أ - ب، و"الوسيط" ٤/ ٢٥٣، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٠، و"التفسير الكبير" ٢٩/ ٢٤٢.

وهذا القول قريب من قول أبي علي.
قوله تعالى: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ قال أبو إسحاق: يمتنع به ويحارب (١) به، وهو قول المفسرين: فيه قتال شديد، قاله عطاء والكلبي (٢).
وقال مقاتل: بأس شديد للحرب (٣)، والمعنى: أنه يتخذ منه آلتان للحرب: آلة الدفع، وآلة الضرب، وقد جمعهما مجاهد في قوله: جُنَّة وسلاح (٤).
قوله تعالى: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ قال المقاتلان والكلبي: ما ينتفعون به في معايشهم مثل السكاكين والفأس والمبرد (٥).
وقال عطاء عن ابن عباس: لأن كل شيء خلقه الله من حجر أو شجر لا يصلح إلا بالحديد (٦).
وقال أبو إسحاق: يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به (٧).
قال صاحب النظم قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ كل هذا معترض بين قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾؛ لأن قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ لا يتصل بإنزال الحديد وهو نسق على قوله: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (٨).
(٢) انظر؛ "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٣٠٠، وعبارتهما (قوة شديدة).
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٢ أ.
(٤) انظر: "تفسير مجاهد" ٢/ ٦٥٨، و"جامع البيان" ٢٧/ ١٣٧.
(٥) في (ك): (المدّ)، وانظر: "تنوير المقباس" ٥/ ٣٦٤.
(٦) لم أجده.
(٧) انظر: "معاني القرآن" ٥/ ١٢٦.
(٨) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٧/ ٢٦١، و"الدر المصون" ١/ ٢٥٣.

والمعنى: أنزلنا الكتاب والميزان لتعامل بالعدل وليعلم الله من ينصره وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بنصرة دينه ورسله وامتحن الناس بذلك الأمر، فمن (١) نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك. وعلى هذا إنزال الحديد وما يتعلق به فصل معترض.
ولأبي النصر عبد الجبار بن محمد العتبي الكاتب -رحمه الله- فصل في هذه الآية خلاف ما ذكره صاحب النظم؛ وهو أنه قال: كان يختلج في صدري معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ﴾ لجمعه بين الكتاب، والميزان، والحديد، على تنافر طردها من المناسبة، وبعدها قبل الرؤية والاستنباط عن المشاكلة والمقاربة، وسألت عنه عدة من أعيان العلماء بالتفسير والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب يزيح العلة، ويشفي الصدر، وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، وأنعمت التوبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، ويريهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، قد خطر فيه التعادي والتظالم، والتباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما لِصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع النصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة العدل التي يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل، فألهمم الله -عَزَّ وَجَلَّ- اتخاذ الآلة التي هي الميزان فيما يأخذونه

ويعطونه لئلا يتظالموا لمخالفته فيهلكوا به إذا لم يكن ينتظم لهم عيش مع شيوع ظلم البعض منهم للبعض، ويدل على هذا المعنى قوله جل ذكره: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: ٧] وذلك أنه تعالى جعل السماء سببًا للأرزاق والأقوات من أنواع الحبوب والنبات فكان ما يخرج منها من أغذية العباد مضطرًا إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف دون الجزاف، ولم يكن ذلك إلا بالآلة المذكورة، فنبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- على موقع الفائدة فيه والفائدة به بتكرير ذكره هذا في الكتاب والميزان، ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية، إنما تحفظ العامي على ابتغاها ويضطر العالم إلى التزام أحكامها بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد ونزع من صفقه الجماعة اليد، وهو بارق سطوته، وشهاب نقمته، وجذوة عقابه، وعذبة عذابه، وهذا السيف هو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة النقوب، متدانية الجيوب، حكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكره من أن المراد بالحديد السيف هو معنى ما ذكرنا من قول المفسرين في تفسير قوله: ﴿بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾.
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ قد مضى الكلام في بيان هذا العلم في مواضع، والمفسرون يقولون: وليرى الله من ينصره وينصر دينه، كقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: ٧].
﴿وَرُسُلَهُ﴾ أي يقاتل مع رسله في سبيله ﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي ولم ير الله ولا أحكام الآخرة وإنما يحمد إذا أطاع بالغيب، كما قال الله تعالى {يُؤَمنُونَ