
سبب إحسانه لأصحاب اليمين للإشارة إلى أن العقاب عدل يبين وجهه، أما الثواب فبمحض الفضل في الحقيقة فلا يحسن ذكر السبب.
قل لهم يا محمد ردّا على افتراءاتهم وإنكارهم للبعث: إن الأولين والآخرين من الأمم كلها، ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث من القبور إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة، ويوم الجزاء والحساب، ثم إنكم أيها الضالون عن الحق، المكذبون بالبعث والوحدانية وإرسال الرسل لآكلون يوم القيامة أكلا مبتدأ من شجر هو زقوم، شجرة تنبت في قعر جهنم جعلت فتنة للظالمين، وهي كريهة المنظر والمخبر، فيملأ الكفار منها بطونهم من شدة الجوع، فإنه هو الذي اضطرهم إلى الأكل منها، وعقب الأكل يشربون عليها من ماء حار لشدة العطش، فشاربون منه شرابا كثيرا كشرب الإبل الهيم التي تشرب حتى تموت أو تسقم، ولا ترتوى، عجبا لهم يأكلون من الزقوم ثم يشربون من الحميم، ثم هم لا يرتوون!! هذا- الذي ذكر من ألوان العذاب- نزلهم الذي أعد لهم يوم الدين، وهو أشبه بما يقدم للضيف ساعة قدومه، فما بالك بما أعد لهم من بعد ذلك!!
بعض الأدلة على إثبات قدرة الله الكاملة على البعث وغيره [سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٧ الى ٧٤]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)

المفردات:
ما تُمْنُونَ: ما تصبونه من المنى في الأرحام. قَدَّرْنا: قضينا به وأوجبناه عليكم. تَحْرُثُونَ الحرث: تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذور فيها.
تَزْرَعُونَهُ الزرع: يطلق على نفس الإنبات. حُطاماً: هو الهشيم الهالك المتكسر الذي لا ينتفع به. تَفَكَّهُونَ أصل التفكه: أكل الفاكهة ثم استعمل مجازا في التلذذ بالحديث، وتفكه قد يستعمل مرادا به إلقاء الفكاهة عن النفس، ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن وعلى هذا فيكون تفكه مثل تحرج وتأثم: إذا أزال الحرج والإثم عنه وقد يطلق التفكه ويراد به التعجب لأن عدم التفكه حيث تطلب الفاكهة يدعو إلى العجب، وفي كتاب الأساس للزمخشري: فظلتم تفكهون: وارد على سبيل التهكم، أى: تجعلون فاكهتكم وما تتلذون به قولكم: إنا لمغرمون. الْمُزْنِ: هو السحاب. أُجاجاً: ملحا ولا يمكن شربه. تُورُونَ: تخرجونها نارا.
لِلْمُقْوِينَ أى: المسافرين، مأخوذ من قولهم: أقوى القوم إذا نزلوا بالقوى أى:
الأرض الخالية القفراء البعيدة عن العمران، وقيل المراد بالمقوين: المقيمين والمسافرين جميعا، ويقال: الفقر مقو لخلوه من المال، وللغنى مقو لقوته على ما يريد، ولا شك أن النار يحتاج إليها الكل.
وتلك حجج وبراهين على إمكان البعث وإثبات أنه في مقدور الله بضرب الأمثلة والنظائر المشاهدة المحسوسة التي لا يمكن إنكارها.

المعنى:
نحن خلقناكم أول مرة وحدنا فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والأعمال الصالحة! فإنهم أقروا ظاهرا بأن الله خلقهم، ولكنه إقرار لم يتبع بالطاعة الصحيحة فنزل منزلة العدم، ولذا حضهم الله على الإقرار بالخلق فقال: فلولا تصدقون!، وقيل المعنى: نحن خلقناكم أول مرة فهلا تصدقون بأنا قادرون على الخلق ثانيا يوم القيامة! ثم أخذ يسوق الأدلة والحجج التي تثبت ذلك فقال: أفرأيتم ما تصبون في رحم النساء من المنى! أأنتم تخلقونه وتصورونه بشرا تام الخلقة؟ أم نحن الخالقون له وحدنا «١» ؟ لم يخلق بالطبيعة، ولم يخلق وحده، ولم تخلقوه أنتم، وهذا المنى تحول من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة فكيف تستبعدون الخلق يوم البعث؟ وإحياءكم بعد أن كنتم ترابا أنتم وآباؤكم؟! نحن قدرنا بينكم الموت، ووقتنا موت كل واحد بزمن لا يتقدم ولا يتأخر، وما نحن بمغلوبين في ذلك أبدا، وما نحن بمغلوبين أيضا على أن نذهبكم، ونأتى مكانكم بأمثالكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الخلق والأطوار، فنحن قادرون على كل ذلك، ولقد علمتم النشأة الأولى لكم حيث خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة... إلخ ما هو معروف، وقيل المعنى: لقد علمتم النشأة الأولى لخلق أبيكم آدم من تراب، وبين التراب والحياة البشرية بون شاسع، فهلا تذكرون ذلك؟ وتعلمون أن من قدر على ذلك كله قادر على إحياء الموتى؟!.
أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ نعم الله هو الذي يحيى الأرض بالنبات بعد موتها، وهو القادر على إخراج النبات الأخضر المثمر من البذور والطين مع أن الحب في الطين قابل للعفونة، ولكن الله بقدرته يخرج منه نباتا أصفر طريا غضا أفلا يدل هذا على القدرة؟
في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، وعلى أنها بصرية تكون مستأنفة لا محل لها، وقوله: أم نحن الخالقون إنها متصلة، وقيل: إنها منقطعة لأن ما بعدها جملة الاستفهام المقدر للتقرير.

لو يشاء ربك بعد خلقه لجعله هشيما متكسرا لا غلة ولا خير، كما يحصل الآن ونراه بأعيننا في حقلين متجاورين متفقين في كل شيء أو نفس الحقل الواحد، ونرى أن هذا النبات يثمر، وذاك في ليلة واحدة يصبح هشيما لا خير فيه، وتبارك الله أحسن الخالقين! لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، وتتعجبون من سوء الحال والمصير، أو فظللتم تتلاومون على سوء أفعالكم، وكل ذلك تفسير باللازم، والأقرب فظللتم تزيلون التفكه والفكاهة عنكم، والرجل لا يطرح الفكاهة والمسرة عن نفسه إلا عند الألم والحزن، أو المراد تتفكهون قائلين: إنا لمغرمون- وهذا من باب التهكم- بل نحن محرومون من عطاء الله.
أفرأيتم الماء الذي تشربونه؟ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون؟ نعم هو الله وحده القادر على إنزال المطر، وإخراج الماء من البحار على هيئة البخار حالة كونه نقيّا صافيا من كل شيء ثم جمعه في السحاب، ثم إنزاله مطرا يصيب به من يشاء من عباده.
ولو شاء ربك أنزل «١» المطر من السماء ملحا أجاجا لا يصلح للرى، ولكنه اللطيف الخبير فهلا تشكرون ربكم على ذلك ولا تكفرون! أفرأيتم النار التي تورونها، وتستخرجونها من الزند أو ثقاب الكبريت، أو على أى صورة أأنتم أنشأتم شجرها؟ أأنتم خلقتم مادتها؟ أم نحن الخالقون؟ نعم هو ربك وحده الذي خلق فقدر كل ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نحن جعلنا النار تذكرة لجهنم، وعبرة لمن يعتبر، وجعلناها متاعا يتمتع بها الخلق جميعا المقيم والمسافر، والغنى والفقير، والحاضر والبادي، ولا غرابة فالنار أحد العناصر المهمة كالماء والتراب والهواء.
إذ كان الأمر كذلك فسبح باسم ربك العظيم، ونزهه عن كل نقص. وإذا كان الأمر بتقديس الاسم فما بال المسمى جل شأنه؟!