
وقيل إنها هنا بمعنى الطراوة في العمر.
والآيات استمرار للسياق. وقد احتوت تنويها بأصحاب اليمين ووصفا لمنازلهم وحياتهم ونعيمهم في الجنة بعبارة واضحة.
تعليق على منازل أصحاب اليمين
والوصف أقل روعة من الوصف الأول. والحكمة في ذلك ظاهرة متسقة مع طبائع الأشياء. فالمؤمنون في مجال العمل متفاوتون، فمنهم السابق المجلي والمستغرق المتفاني. ومنهم المقتصد المتقي بل ومنهم المقصر بعض التقصير مع حسن النية. فاقتضت حكمة التنزيل أن يعلم الناس أن لكل منهم منازل فيها رضاء الله وعطفه مع التفاوت حسب سيرهم في مجال العمل. وتعبير ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) في صدد أصحاب اليمين ينطوي على ما هو المتبادر على تقرير كون أصحاب هذه المرتبة هم السواد الأعظم من المؤمنين في جميع الأوقات.
وهو المتسق مع طبائع الأمور.
وفي الآيات تشجيع وتطمين لأصحاب هذه المرتبة. فالله سبحانه يقبل من عباده المؤمنين عملهم الصالح مهما كان مقداره. ويرضى عنه ويثيب أصحابه.
وما قلناه في آخر تعليقنا على ما جاء في الآيات السابقة من الإطناب في وصف مجلس الشراب والطعام وهدفه نقوله هنا بتمامه فلا حاجة إلى التكرار.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨)
(١) سموم: الريح الشديدة الحرارة واللفح.

(٢) حميم: الماء الشديد الحرارة.
(٣) يحموم: الدخان الشديد السواد.
(٤) لا بارد ولا كريم: يقصد بذلك وصف الظل بأنه لا يمنح برودة ولا يمنع أذى ومما قيل في معنى كريم أنه العذب.
(٥) مترفين: مرفهين منعّمين.
(٦) الحنث العظيم: الحنث هو النكث بالعهد والذنب والإثم. والمقصود من الحنث العظيم الكفر والشرك.
والآيات كذلك استمرار للكلام. وقد احتوت تقريعا للكافرين الجاحدين المشركين الذين هم أصحاب الشمال، ووصفا لمنازلهم وعذابهم بأسلوب هائل ورائع: فهم معرضون للريح الشديدة الحرارة واللفح، فإذا عمدوا إلى إطفاء حرهم بالماء فهو حميم شديد الحرارة أيضا، وإذا عمدوا إلى رواق يتراءى لهم كأنه ظل فهو ظل من يحموم دخان شديد السواد لا يمنح برودة ولا يمنع أذى الحر. وليس من شك في أن هذا الوصف مما يثير الفزع والرهبة في النفوس، وهو مما استهدفته الآيات على ما هو المتبادر بالإضافة إلى القول بوجوب الإيمان بما احتوته الآيات من المشاهد الأخروية.
ولقد احتوت الآيات بالإضافة إلى ذلك تعليلا لمصير الكفار الرهيب. فقد كانوا مستغرقين في حياة الترف مصرين على الكفر والجحود والإثم. وتكذيب ما كانوا يوعدون به من بعثهم وآبائهم بعد أن يموتوا ويصبحوا ترابا وعظاما.
والمتبادر من الآيات وخاصة الآية [٤٥] أن الكلام منصرف في الدرجة الأولى إلى الزعماء والأغنياء. فهم الذين يكونون عادة مستغرقين في حياة الترف.
وهم الذين كانوا يقودون حملة التكذيب والمناوأة لدعوة الله سبحانه.
تعليق على التنديد بالترف والمترفين
وقد يبدو من الكلام أن الترف من جملة الآثام التي يعاقب عليها أصحابها في الآخرة، وإنه لكذلك إذا كان فيه سرف وسفه واستغراق يحول بين صاحبه وبين

الإيمان والعمل الصالح والقيام بواجباته نحو الله تعالى والناس. وقد يكون في الجملة- والحال هذه- معنى من معاني الإنذار والتحذير للمسلمين بأن يلتزموا الاعتدال في حياتهم وفق الحدود التي رسمها الله لهم في آيات سورة الأعراف هذه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وآية سورة الإسراء هذه وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩).
تعليق على تنوع أوصاف النعيم والعذاب في الآخرة
هذا، ولا بد من أن يكون تالي القرآن قد لا حظ تنوعا في وصف ثواب الآخرة وعذابها وأحداثها وأهوالها. غير أنا لا نرى في هذا ما يدعوا إلى التوهم، فمع الحقيقة الإيمانية المغيبة في البعث والحساب والثواب والعذاب ووجوب الإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية فإن تكرر المواقف وتجدد المناسبات مما يقتضي أو يتحمل التنويع في أساليب الترهيب والترغيب والتبشير والإنذار حفزا للهمم ودعوة للإرعواء، ويلفت النظر إلى أن أوصاف النعيم والعذاب هي مستمدة من مألوفات الناس ومفهوماتهم في الدنيا للتقريب والتمثيل لأن الناس لا يتأثرون إلّا بما في أذهانهم من صور وما يقع تحت مشاهدتهم وحسهم وتجاربهم. وبما أن المألوفات والمفهومات في هذا الباب متنوعة فالمتبادر أن الحكمة اقتضت التنويع لتحقيق الهدف الدنيوي من الإنذار والتبشير والترهيب والترغيب.
قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه
ويلفت النظر إلى مظهر يمكن أن يكون قرينة على صحة نزول هذه السورة بعد سورة طه. وهو أن سورة طه انتهت بإيعاد الكفار وإنذارهم وإنظارهم إلى اليوم