أبكارا» أخرجه الطبراني في الصغير والبزار عن أبي سعيد مرفوعا
عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر، وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات، ولا يخفى أن الغنج ألطف أسباب التحبب، وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام، وفي رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق لأزواجهن، ومنه على ما قيل قول لبيد:
وفي الخدور عروب غير فاحشة | ريا الروادف يعشى دونها البصر |
يعرين عند بعولهن إذا خلوا | وإذا هم خرجوا فهن خفار |
وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: عُرُباً كلامهن عربي
، ولا أظن لهذا صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر.
وقرأ حمزة وجماعة- منها عباس والأصمعي- عن أبي عمرو، وأخرى- منها خارجة وكردم- عن نافع، وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان- عن عاصم «عربا» بسكون الراء وهي لغة تميم، وقال غير واحد: هي للتخفيف كما في عنق وعنق أَتْراباً مستويات في سن واحد كما قال أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن.
وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين»
والمراد بذلك كمال الشباب، وقوله تعالى: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق- بأنشانا- أو بجعلنا، وقيل: متعلق- بأترابا- كقولك فلان ترب لفلان أي مساو له فهو محتاج إلى التأويل، وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر، وقيل: بمحذوف هو صفة- لأبكارا- أي كائنات لأصحاب اليمين، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكيد والتحقيق [الواقعة: ٣٩- ٨٠] وقوله تعالى: صفحة رقم 142
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة، أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع فِي سِدْرٍ أو لِأَصْحابِ الْيَمِينِ في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه، وجعل اللام بمعنى من كما في قوله:
ونحن لكم يوم القيامة أفضل لا يخفى حاله- والأولون والآخرون- المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم، هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين- جزاء بما كانوا يعملون- كما قاله عز وجل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة. ولا يمكن أن يقال: إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل، والله تعالى أعلم.
والكلام في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ على نمط ما سلف في نظيره، والسموم قال الراغب: الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم، وفي الكشاف حرّ نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى: وَحَمِيمٍ وهو الماء الشديد الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي على وزن يفعول، وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلّا على التشبيه التهكمي، وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقال ابن كيسان: هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ بالله تعالى منها. وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا: هو جبل من النار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء، والجار والمجرور في موضع الصفة- لظل- وكذا قوله سبحانه: لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صفتان له، وتقديم الصفة الجار والمجرور على الصفة المفردة جائز كما صرح به الرضي وغيره أي لا بارد كسائر الظلال، ولا نافع لمن يأوي إليه من أذى الحر- وذلك كرمه- فهناك استعارة، ونفى ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الاسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى: مِنْ يَحْمُومٍ والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للإثبات. ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم، وقيل: الكرم باعتبار أنه مرضي في بابه، فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه، وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى: لا بارِدٍ وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح
إليه ونسب إلى الظل مجازا، والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون، وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة، وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين- ليحموم- ويلزم منه وصف الظل بهما، وتعقب بأن وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة! وقرأ ابن أبي عبلة «لا بارد ولا كريم» برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حدّ قوله:
فأبيت لا حرج ولا محروم أي لا أنا حرج ولا محروم، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، وسلك هذا المسلك في تعليل الابتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب، ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل، وقيل: هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز وجل وما جاء منه سبحانه، وقيل: هو الذي أترفته النعمة أي أبطرته وأطغته، وقريب منه ما قيل: هو المنعم المنهمك في الشهوات، وعليه قول أبي السعود أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى.
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله، وقيل: المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة، وهو على ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه وَكانُوا يُصِرُّونَ يتشددون ويمتنعون من الإقلاع ويداومون عَلَى الْحِنْثِ أي الذنب الْعَظِيمِ وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالغة في وصفه بالعظم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا، والمراد به كما روي عن قتادة والضحاك وابن زيد الشرك وهو الظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى- وكانوا يصرون على كل حنث عظيم- وفي رواية أخرى عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الإطلاق، وقال التاج السبكي في طبقاته: سألت الشيخ، يعني والده تقي الدين- ما الحنث العظيم؟ - فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: ٣٨] وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً إلى آخره للزوم التكرار، وأجيب بأن المراد بالأول وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده، والمراد بقولهم:- كنا ترابا وعظاما- كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث،- وإذا- متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله- وهو
نبعث- وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه، وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد، وقوله سبحانه: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محل- إن- واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون وحسن للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا- كما قال الزمخشري- ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها، وقولهم: الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم اطراده لورود:
«ولا- للما- بهم أبدا دواء» وأمثاله، وجوز أن يكون آباؤُنَا مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون، والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور والمعنى- أيبعث أيضا آباؤنا- على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقرأ قالون وابن عامر «أو آباؤنا» بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل.
قُلْ ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم، وتقديم الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لَمَجْمُوعُونَ بعد البعث، وقرىء «لمجمعون» إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز وجل، والميقات ما وقت به الشيء أي حد، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما، وإضافته إلى يَوْمٍ بيانية كما في خاتم فضة، وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقتت به الدنيا، وإِلى للغاية والانتهاء، وقيل: والمعنى لَمَجْمُوعُونَ منتهين إلى ذلك اليوم، وقيل: ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عطف على إِنَّ الْأَوَّلِينَ داخل في حيز القول، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياق على ما قيل، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم لَآكِلُونَ بعد البعث والجمع ودخول جهنم مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون للأكل من شجر هو زقوم، وجوز كون الأولى تبعيضية ومِنْ الثانية على حالها، وجوز كون مِنْ زَقُّومٍ بدلا من قوله تعالى: مِنْ شَجَرٍ فمن تحتمل الوجهين، وقيل: الأولى زائدة، وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما لا يؤكل، وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد، وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقيب ذلك بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل، وقال بعضهم: التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ، فقيل عليه: إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو أعيد الضمير المذكور على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث، ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول، وقيل: هو مطلقا عائد على الأكل، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت، أو تسقم سقما شديدا، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال: جمل أهيم قال الشاعر:
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد | صداها ولا يقضي عليها هيامها |
وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «شرب» بفتح الشين
وهو مصدر شرب المقيس، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي هذا الذي ذكر من ألوان العذاب نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا | جعلنا القنا والمرهفات له نزلا |
تجوزا، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شيء فيه- وأرأيتم- قد مر الكلام غير مرة فيه، ويقال هنا: إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني، وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز في- أنتم- أن يكون مبتدأ، والجملة بعده خبره، وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، واختاره أبو حيان. وأَمْ قيل: منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى- بل أنحن الخالقون- على أن الاستفهام للتقرير، وقال قوم من النحاة: متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل:
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ ثم جيء- بالخالقون- بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وقرأ ابن كثير «قدرنا» بالتخفيف وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي لا يغلبنا أحد عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه، وظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى، والجملة في موضع الحال من ضمير قَدَّرْنا وكأن المراد قَدَّرْنا ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم.
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد، والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليه خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها، وقيل: المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، وقيل: المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه، على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه، وقوله تعالى:
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين أو عازمين على تبديل أمثالكم، والجملة السابقة على حالها، وقال الطبري: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
متعلق- بقدّرنا- وعلة له وجملة وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ اعتراض، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى من خلقكم من نطفة، ثم من علقه، ثم من مضغة وقال قتادة:
هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال، وهذا- على ما قالوا- دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية، وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور.
وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي المنبتون لا أنتم والكلام في- أنتم- وأَمْ كما مر آنفا،
وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الايمان- وضعفه- وابن حبان- كما قال الخفاجي- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت
، ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من
هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع، وقال القرطبي: إنه يستحب للزارع أن يقول بعد الاستعاذة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، وقيل: وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها وإنتاجه لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله فَظَلْتُمْ بسبب ذلك تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الحسن: تندمون أي على ما تعبتم فيه، وأنفقتم عليه من غير حصول نفع، أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تلاومون على ما فعلتم، وأصل التفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب، أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير، وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم، ومعنى تَفَكَّهُونَ تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب.
وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه «فظلتم» بكسر الظاء كما قالوا: مست بالكسر ومست بالفتح، وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش، وقرأ عبد الله والجحدري- فظللتم- بلامين أولاهما مكسورة، وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر، وقرأ أبو حزام «تفكنون» بالنون بدل الهاء، قال ابن خالويه: تفكه بالهاء تعجب، وتفكن بالنون تندم إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يع | ط جزيلا فإنه لا يبالي |
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا أرض أبقل إبقالها |
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار. وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو هاهنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف- لم أر- في قول أوس:
حتى إذا الكلاب قال لها... «... » كاليوم مطلوبا ولا طلبا
والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري، وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره، وأن صفحة رقم 148
الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا، ولم أره أتى بما يشرح الصدر، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
فَلَوْلا تَشْكُرُونَ تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا»
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي منها الزناد وهي المرخ والعفار، وقيل: المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل: نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة.
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبئ عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل- في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار- كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] لذلك نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما
في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم»
وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك، وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وَمَتاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد.
وقيل: لِلْمُقْوِينَ أي المسافرين، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز، وقيل: لِلْمُقْوِينَ للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل:- أقوى- فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا- على ما قيل- لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ، وقال عكرمة ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين
يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبي والطبرسي: وعلى هذا القول- المقوي- من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، وللغني مقو لقوّته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى.
وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالإقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر، وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر، وقال بعضهم: قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى، واستحسن بعضهم من القارئ أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب،
فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن حجر المروي قال: بت عند عليّ كرم تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ فقال:
بل أنت يا رب ثلاثا
، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين العلماء فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سبحانه وتعالى، والمراد على ما قيل: أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، فالمراد تجديد التسبيح، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء، والعظيم صفة للاسم، أو للرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها وسبحان ترد للتعجب مجازا مشهورا فسبح بمعنى تعجب، وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر.
هذا وجوز أن لا يكون في بِاسْمِ رَبِّكَ إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: ١] : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء، وجعلها زائدة خلاف الظاهر، وحال كونها للتعدية قد سمعته، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم، والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما
أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف.
وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد: فَلا أُقْسِمُ وعلى الأول لا بد من إضمار- أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به- فأقسم إنه لقرآن، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليه به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم إنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: ٢٩] أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله:
أعوذ بالله من العقراب واختاره أبو حيان ثم قال: وهو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: ٣٧] بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام.
ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم- وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال: والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر:
ليعلم ربي أن بيتي واسع وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال وهو خلاف المراد، والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل: لأقسمن وحذفها ضعيف جدا، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم، وقيل: نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الإشباع، وتعقب بأن المبتدأ إذ دخل عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه، وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة:- لا- نفي وردّ لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل: أُقْسِمُ إلخ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم- لا- وخبرها في غير جواب سؤال نحو- لا- في جواب هل من رجل في الدار، وقيل: الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واستئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو- لا- وأطال الله تعالى بقاءك، وقال: بعضهم إن- لا- كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله:
لا وأبيك ابنة العامريّ | لا يدّعي القوم أني أفرّ |
كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا، أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له»
وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل: وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث،
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين
، وقد مرّ لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل، وقيل: مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها، ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال: على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، وقال جماعة منهم ابن عباس: النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها.
وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أن قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين» وفي لفظ «ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أقسم بمواقع النجوم»
وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعدّ كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى، ولعل الكلام عليه من باب «وثناياك إنها إغريض».
وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي «بموقع» مفردا مرادا به الجمع.
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له، وقوله عز وجل لَوْ تَعْلَمُونَ معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب لَوْ إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه، ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر، أو هو ظاهر بناء على أن المراد بِمَواقِعِ النُّجُومِ ما روي عن ابن عباس والجماعة، ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع، وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش، والمعاد، والكرم على هذا مستعار- كما قال الطيبي- من الكرم المعروف.
وقيل: الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرما حقيقة، وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل: هو يرجع لما تقدم، وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل: إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه
الكفار، وقوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم، فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره، وقيل: أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال: في كتاب أي التوراة والإنجيل، وحكي ذلك في البحر ثم قال: كأنه قال: ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة انتهى.
والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل، وجوز إرادة هذا المعنى المجازي على غير هذا القول من الأقوال، وقيل: الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى.
وقيل: المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: ٦٣] والمعول عليه ما تقدم، وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار، والوصفية أبلغ كما لا يخفى، وقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية، وقيل: عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية، ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه، وإما صفة أخرى لقرآن.
والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: ٣]
وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه» الحديث
وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل- لا- ناهية، وثانيها أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل، وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس، ورابعها أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس، وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا يَمَسُّهُ مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال: في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس، والمنافق الرجس، وأخرجاهما وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال: في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال:
قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أنها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: ١١- ١٦] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان- يعني الفارسي- رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت
فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال: سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وقيل: الجملة صفة لقرآن، والمراد- بالمطهرون- المطهرون من الكفر، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى: أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: ٨] أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر، ولم أر هذا مرويا عن أحد من السلف، والنفي عليه على ظاهره، ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون، وإن كان في تعظيمه تعظيمه. وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب- وفيه نظر- وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر.
وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار،
فقد أخرج الامام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم «ولا تمس القرآن إلا على طهور».
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يمس القرآن إلا طاهر»
إلى غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضا، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه.
وقيل: حرام كالمس باليد المتنجسة، وكون القراءة في مكان نظيف، والقارئ مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، والاستياك لقراءته، والترتيل، والتدبر، والبكاء، أو التباكي، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه،
فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها
، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر مذكورة في محالها، وفي وجوب كون القارئ طاهرا من الأحداث خلاف، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة، وعن ابن عمر أحب إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر.
وقرأ عيسى «المطهرون» اسم مفعول مخففا من أطهر، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه «المطهّرون» بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي الْمُطَهَّرُونَ أنفسهم، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام، وعنه أيضا «المطّهّرون» بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون، وقرىء المتطهرون على الأصل تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل.
وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرىء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا.