
ولتفاؤلهم بالسانح «١» وتطيرهم من البارح، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن، وسموا الشمائل الشؤمى. وقيل: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة: أصحاب اليمن والشؤم، لأنّ السعداء هيامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٠ الى ٢٦]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
وَالسَّابِقُونَ المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا السابق المقرّب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة، ثم تراجع بتوبة، فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم يزل عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب الشمال ما أصحاب الميمنة. ما أصحاب المشأمة؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة «٢».
(٢). قال محمود: «ما» تعجيب من حال الفريقين... الخ» قال أحمد: اختار ما هو المختار، لأنه أقعد بالفصاحة، لكن بقي التنبيه على المخالفة بين المذكورين في السابقين وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين، فنقول: التعظيم المؤدى بقوله السَّابِقُونَ أبلغ من قرينه، وذلك أن مؤدى هذا: أن أمر السابقين وعظمة شأنه ما لا يكاد يخفى، وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فانه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فجمع بين اسم الاشارة المشار به إلى معروف، وبين الاخبار عنه بقوله الْمُقَرَّبُونَ معرفا بالألف واللام العهدية، وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فانه مصدر بقوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.

والمعنى: أى شيء هم؟ والسابقون السابقون، يريد: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقوله وعبد الله عبد الله. وقول أبى النجم: وشعري شعري «١»، كأنه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته، وقد جعل السابقون تأكيدا. وأولئك المقرّبون:
خبرا وليس بذاك. ووقف بعضهم على: والسابقون، وابتدأ السابقون أولئك المقرّبون، والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة: ما أصحاب الميمنة، وما أصحاب المشأمة الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم.
وقرئ: في جنة النعيم. والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. قال:
وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة | بجيش كتيّار من السّيل مزبد «٢» |
أنا أبو النجم وشعري شعري | لله درى ما أجن صدري |
تنام عينى وفؤادي يسرى | مع العفاريت بأرض قفر |
والنبت: طال والتف. والذباب: كثرت أصواته. وجنه الليل: ستره، وأجنه الصدر: أكنه. وما تعجبية.
وأجن: فعل تعجب، أى: شيء عظيم جعل صدري محيطا بالمعاني الغريبة، ويحتمل أن «ما» يدل من درى.
وأجن: فعل ماض صلة أو صفة له، ومؤادى: قلبي أو عقلى. يسرى: يسير ليلا. أى: يبيت فكرى كأنه ذاهب مع العفاريت بأرض فضاء لا نبات بها، لا بعاده في المعاني. والبيت الثاني بيان للأول.
(٢).
وجاءت إليهم ثلة خندفية | بحيش كتيار من السيل مزيد |
(٣). أخرجه الطبري وابن عدى من رواية أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال قال رسول الله ﷺ «هما جميعا من أمتى» وأبان هو ابن أبى عياش متروك. ورواه إسحاق وسنده إلى الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية زيد بن صهبان عن أبى بكرة مرفوعا وموقوفا. والموقوف أولى بالصواب. وعلى ضعيف.

قلت: هذا في السابقين وذلك في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعا.
فإن قلت: فقد روى أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين، فما زال رسول الله ﷺ يراجع ربه حتى نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. قلت: هذا لا يصح لأمرين، أحدهما: أنّ هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا، وكذلك الثانية في أصحاب «١» اليمين.
ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم، على السابقين ووعدهم، والثاني: أنّ النسخ في الأخبار غير جائز. وعن الحسن رضى الله عنه: سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمّة. وثلة: خبر مبتدإ محذوف، أى: هم ثلة مَوْضُونَةٍ مرمولة بالذهب، «٢» مشبكة بالدرّ والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع.
قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة «٣»
وقيل: متواصلة، أدنى بعضها من بعض. مُتَّكِئِينَ حال من الضمير في على، وهو العامل فيها، أى: استقرّوا عليها متكئين مُتَقابِلِينَ لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب مُخَلَّدُونَ مبقون أبدا على شكل الولدان وحدّ الوصافة، «٤» لا يتحوّلون عنه. وقيل: مقرّطون، والخلدة: القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها. روى عن على رضى الله عنه وعن الحسن.
وفي الحديث: «أولاد الكفار خدّام أهل الجنة» «٥». الأكواب: أوان بلا عرى وخراطيم،
(٢). قوله «مرمولة بالذهب» في الصحاح: رملت الحصير، أى: سففته. وفيه أيضا: سففت الخوص: أى نسجته. (ع)
(٣).
ومن نسج داود موضونة | تساق مع الحي عيرا فعيرا |
السيد، أى سيدا بعد سيد متربين، ويطلق العير على طائر يطير فوق القافلة السائرة، وتبعد إرادته هنا.
(٤). قوله «وحد الوصافة» هي بلوغ الغلام حد الخدمة. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه البزار والطبراني في الأوسط من رواية عباد بن منصور عن أبى رجاء العطاردي عن سمرة بن جندب قال «سألنا رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة» ورواه البزار من براية على بن زيد بن جدعان والطيالسي والطبراني وأبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بهذا وأتم منه قلت: قد يعارضه حديث سمرة في صحيح البخاري. فقيه أنه رأى أولاد الناس تحت شجرة يكفلهم إبراهيم عليه السلام قال فقلنا: وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» أخرجه بهذا اللفظ. ويمكن الجمع بينهما بأن لا منافاة بينهما لاحتمال أن يكونوا في البرزخ كذلك، ثم بعد الاستقرار يستقرون في الجنة خدما لأهلها.