آيات من القرآن الكريم

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
ﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈ

[سورة الرحمن (٥٥) : الآيات ٥ الى ٦]

الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦)
وَفِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لما ثبت كونه رحمن وَأَشَارَ إِلَى مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ نِعَمَهُ وَبَدَأَ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ جَمِيعُ النِّعَمِ بِهِ تَتِمُّ، وَلَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا انْتُفِعَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ بَيَّنَ نِعْمَةَ الْإِدْرَاكِ بقوله: عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: ٤] وَهُوَ كَالْوُجُودِ إِذْ لَوْلَاهُ لَمَا حَصَلَ النَّفْعُ وَالِانْتِفَاعُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ أَنْوَاعِ النِّعَمِ السَّمَاوِيَّةِ وَهُمَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَلَوْلَا الشَّمْسُ لَمَا زَالَتِ الظُّلْمَةُ، وَلَوْلَا الْقَمَرُ لَفَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ نِعَمَهَا لَا تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِثْلَ مَا تَظْهَرُ نِعْمَتُهُمَا، ثُمَّ بَيَّنَ كَمَالَ نَفْعِهِمَا فِي حَرَكَتِهِمَا بِحِسَابٍ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَوْ كَانَتِ الشَّمْسُ ثَابِتَةً فِي مَوْضِعٍ لَمَا انْتَفَعَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَوْ كَانَ سَيْرُهَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْخَلْقِ لَمَا انْتَفَعُوا بِالزِّرَاعَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْفُصُولِ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي مُقَابِلَتِهِمَا نِعْمَتَيْنِ ظَاهِرَتَيْنِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمَا النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالَّذِي لَهُ سَاقٌ، فَإِنَّ الرِّزْقَ أَصْلُهُ مِنْهُ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ رِزْقٌ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَأَصْلُ النِّعَمِ عَلَى الرِّزْقِ الدَّارِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّبَاتُ هُوَ أَصْلُ الرِّزْقِ لِأَنَّ الرِّزْقَ إِمَّا نَبَاتِيٌّ وَإِمَّا حَيَوَانِيٌّ كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، وَلَوْلَا النَّبَاتُ لَمَا عَاشَ الْحَيَوَانُ وَالنَّبَاتُ وَهُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قِسْمَانِ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأَشْجَارِ الْكِبَارِ وَأُصُولِ الثِّمَارِ وَغَيْرُ قَائِمٍ كَالْبُقُولِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحَشِيشِ وَالْعُشْبِ الَّذِي هُوَ غَذَاءُ الْحَيَوَانِ ثَانِيهَا: هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ وَكَانَ هُوَ كَافِيًا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ قَالَ بَعْدَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ إِنْ تَكُنْ لَهُ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الَّتِي يُغْنِيهَا اللَّهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، فَلَهُ فِي الْآفَاقِ آيَاتٌ مِنْهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُمَا لِلذِّكْرِ لِأَنَّ حَرَكَتَهُمَا بِحُسْبَانٍ تَدُلُّ عَلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ سَخَّرَهُمَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَوِ اجْتَمَعَ مَنْ فِي الْعَالَمِ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ وَالْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَتَوَاطَئُوا أَنْ يُثَبِّتُوا حَرَكَتَهُمَا عَلَى الْمَمَرِّ الْمُعَيَّنِ عَلَى الصَّوَابِ الْمُعَيَّنِ وَالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ فِي الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ لَمَا بَلَغَ أَحَدٌ مُرَادَهُ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ/ وَيَقُولَ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَرَادَ، وَذَكَرَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَغَيْرَهُمَا إِشَارَةً إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ ثَالِثُهَا: هُوَ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُفْتَتَحَةٌ بِمُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الْهَيْئَةِ فَذَكَرَ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ بِمَا يَكُونُ جَوَابًا لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بِأَشْرَفِ خِطَابٍ، فَقَالَ: بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ كَيْفَ يُمْكِنُ نُزُولُ الْجِرْمِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَكَيْفَ يَصْعَدُ مَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ؟ فَقَالَ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ إِشَارَةً إِلَى [أَنَّ] حَرَكَتَهُمَا بِمُحَرِّكٍ مُخْتَارٍ لَيْسَ بِطَبِيعِيٍّ وَهُمْ وَافَقُونَا فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْحَرَكَةَ الدَّوْرِيَّةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ طَبِيعِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً فَنَقُولُ: مَنْ حَرَّكَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ أَنْزَلَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ثُمَّ النَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَتَحَرَّكَانِ إِلَى فَوْقُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ مَعَ أَنَّ الثَّقِيلَ عَلَى مَذْهَبِكُمْ لَا يَصْعَدُ إِلَى جِهَةِ فَوْقُ فَذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، فَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْمَلَكِ جَائِزَةٌ مِثْلَ الْفَلَكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِحُسْبانٍ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَوَابِ عن قولهم: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا اخْتَارَ لِحَرَكَتِهِمَا مَمَرًّا مُعَيَّنًا وَصَوْبًا مَعْلُومًا وَمِقْدَارًا مَخْصُوصًا كَذَلِكَ اخْتَارَ لِلْمَلَكِ وَقْتًا مَعْلُومًا وَمَمَرًّا مُعَيَّنًا بِفَضْلِهِ وَفِي التَّفْسِيرِ مَبَاحِثُ:

صفحة رقم 339

الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَعْرِيفِهِ عَمَّا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ هُمَا: بِحُسْبانٍ وَلَمْ يَقُلْ: حَرَّكَهُمَا اللَّهُ بِحُسْبَانٍ أَوْ سَخَّرَهُمَا أَوْ أَجْرَاهُمَا كَمَا قَالَ: خَلَقَ الْإِنْسانَ وَقَالَ: عَلَّمَهُ الْبَيانَ؟ [الرحمن: ٣، ٤] نَقُولُ:
فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ أَتَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْمَنَافِعِ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ صَرَّحَ هُنَاكَ بِأَنَّهُ فَاعِلُهُ وَصَانِعُهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ هُنَا، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ هاهنا بِمِثْلِ هَذَا فِي الْعِظَمِ يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنِّي أَعْطَيْتُكَ الْأُلُوفَ وَالْمِئَاتِ مِرَارًا وَحَصَلَ لَكَ الْآحَادُ وَالْعَشَرَاتُ كَثِيرًا وَمَا شَكَرْتَ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ حَصَلَ لَكَ مِنِّي وَمِنْ عَطَائِي لَكِنَّهُ يُخَصِّصُ التَّصْرِيحَ بِالْعَطَاءِ عِنْدَ الْكَثِيرِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ:
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِشَارَةٌ إِلَى دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ مُؤَكِّدٍ السَّمْعِيَّ وَلَمْ يَقُلْ: فَعَلْتُ صَرِيحًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنِّي وَاعْتَرَفْتَ بِهِ، وَأَمَّا السَّمْعِيُّ فَصَرَّحَ بِمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ الثَّانِي: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَعَلُّقُ الْبَاءِ مِنْ بِحُسْبانٍ، نَقُولُ: هُوَ بَيِّنٌ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَيْضًا مَرَّ بَيَانُهُ وَخَرَجَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَنَقُولُ: فِي الْحُسْبَانِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ الْحِسَابُ يُقَالُ: حَسِبَ حِسَابًا وَحُسْبَانًا، وَعَلَى هَذَا فالباء للمصالحة تَقُولُ:
قَدِمْتَ بِخَيْرٍ أَيْ مَعَ خَيْرٍ وَمَقْرُونًا بِخَيْرٍ فَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَجْرِيَانِ وَمَعَهُمَا حِسَابُهُمَا ومثله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩]، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرعد: ٨] وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا فِي قَوْلِكَ:
بعون الله غلبت، وبتوفيق الله حجت، فَكَذَلِكَ يَجْرِيَانِ بِحُسْبَانٍ مِنَ اللَّهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُسْبَانَ هُوَ الْفَلَكُ تَشْبِيهًا لَهُ بِحُسْبَانِ الرَّحَا وَهُوَ مَا يَدُورُ فَيُدِيرُ الْحَجَرَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ لِلِاسْتِعَانَةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْآلَاتِ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَهُمَا يَدُورَانِ بِالْفَلَكِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: ٤٠]، الثَّالِثُ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ هَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَجْرِي بِحُسْبَانٍ أَوْ كِلَاهُمَا بِحُسْبَانٍ وَاحِدٍ مَا الْمُرَادُ؟ نَقُولُ: كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ فَإِنْ نَظَرْنَا إِلَيْهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِسَابٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ/ كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: ٣٣] لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْكُلَّ مَجْمُوعٌ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ وَكَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [الرَّعْدِ: ٨] وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِلْكُلِّ حِسَابٌ وَاحِدٌ قَدْرَ الْكُلِّ بِتَقْدِيرِ حُسْبَانِهِمَا بِحِسَابٍ، مِثَالُهُ مَنْ يُقَسِّمُ مِيرَاثَ نَفْسِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ نَصِيبًا مَعْلُومًا بِحِسَابٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فَيَأْخُذُ الْبَعْضُ السُّدُسَ وَالْبَعْضُ كَذَا وَالْبَعْضُ كَذَا، فَكَذَلِكَ الْحِسَابُ الْوَاحِدُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فَفِيهِ أَيْضًا مَبَاحِثُ:
الْأَوَّلُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ وَاوٍ عَاطِفَةٍ، وَمِنْ هُنَا ذَكَرَهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ؟ نَقُولُ لِيَتَنَوَّعَ الْكَلَامُ نَوْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ من بعد النِّعَمَ عَلَى غَيْرِهِ تَارَةً يَذْكُرُ نَسَقًا مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَنْعَمَ عَلَيْكَ كَثِيرًا، أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذلك، قَوَّاكَ بَعْدَ ضَعْفٍ، وَأُخْرَى يَذْكُرُهَا بِحَرْفٍ عَاطِفٍ وَذَلِكَ الْعَاطِفُ قَدْ يَكُونُ وَاوًا وَقَدْ يَكُونُ فَاءً وَقَدْ يَكُونُ ثُمَّ، فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَكْرَمَكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَيَقُولُ: رَبَّاكَ فَعَلَّمَكَ فَأَغْنَاكَ، وَيَقُولُ: أَعْطَاكَ ثُمَّ أَغْنَاكَ ثُمَّ أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَيْكَ، فَكَذَلِكَ هُنَا ذَكَرَ التَّعْدِيدَ بِالنَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ قِيلَ:
زِدْهُ بَيَانًا وَبَيِّنِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي الْمَعْنَى، قُلْنَا: الَّذِي يَقُولُ بِغَيْرِ حَرْفٍ كَأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ بَيَانَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ فَيَتْرُكُ الْحَرْفَ لِيَسْتَوْعِبَ الْكُلَّ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلِ كَلَامٍ، وَلِهَذَا يَكُونُ ذَلِكَ النَّوْعُ فِي أَغْلَبِ الْأَمْرِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ النِّعَمِ ثَلَاثًا أَوْ عند ما تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِعْمَتَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ نِعْمَتَيْنِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَعْطَاكَ الْمَالَ وَزَوَّجَكَ الْبِنْتَ، فَيَكُونُ فِي كَلَامِهِ إِشَارَةٌ إِلَى نِعَمٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ لِلْأُنْمُوذَجِ، وَالَّذِي يَقُولُ بِحَرْفٍ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ نِعْمَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِذْهَابِ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أَنْعَمَ عَلَيْكَ أَعْطَاكَ الْمَالَ هو تفسير

صفحة رقم 340

لِلْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ ذِكْرُ نِعْمَتَيْنِ مَعًا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَ بِحَرْفٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلَوْ ذَكَرَ النِّعَمَ الْأُوَلَ بِالْوَاوِ ثُمَّ عِنْدَ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ فِي الْآخِرِ سَرَدَهَا سَرْدًا، هَلْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْبَلَاغَةِ؟ وَوُرُودُ كَلَامِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبْلَغُ، وَلَهُ دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ ظَاهِرٌ يُبَيَّنُ بِبَحْثٍ وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَشْرَعُ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا عَلَى قَصْدِ الِاخْتِصَارِ فَيَقْتَضِي الْحَالُ التَّطْوِيلَ، إِمَّا لِسَائِلٍ يُكْثِرُ السُّؤَالَ، وَإِمَّا لِطَالِبٍ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ لِلُطْفِ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ يَشْرَعُ عَلَى قَصْدِ الْإِطْنَابِ وَالتَّفْصِيلِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شُغْلِ السَّامِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، نَقُولُ: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَائِدُهُ لِعِبَادِهِ لَا لَهُ فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ابْتَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ أَتَمِّ النِّعَمِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ، فَأَتَى بِمَا يَخْتَصُّ بِالْكَثْرَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ بِكَامِلِ الْعِلْمِ يَعْلَمُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَدَأَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى وَإِذْهَابُ تَوَهُّمِ الْبَدَلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعَطْفِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَالِابْتِدَاءِ بِهِ لَا بِمَا قَبْلَهُ وَلَا بِمَا بَعْدَهُ؟ قُلْنَا: لِيَكُونَ النَّوْعَانِ عَلَى السَّوَاءِ فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنَ النِّعَمِ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَرْبَعًا مِنْهَا بِغَيْرِ وَاوٍ وَأَرْبَعًا بِوَاوٍ، / وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ [الرَّحْمَنِ: ١١] وَقَوْلُهُ:
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ [الرَّحْمَنِ: ١٢] فَلِبَيَانِ نِعْمَةِ الْأَرْضِ عَلَى التَّفْصِيلِ ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ الثَّمَانِيَةِ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ السَّبْعَةَ عَدَدٌ كَامِلٌ وَالثَّمَانِيَةَ هِيَ السَّبْعَةُ مَعَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّ التَّعْدِيدِ لِمَا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْكَمَالِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا مُبَيَّنًا، فَذَكَرَ الثَّمَانِيَةَ مِنْهَا إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ الْعَدَدِ لَا لِبَيَانِ الِانْحِصَارِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: النَّجْمُ مَاذَا؟ نَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ وَالثَّانِي: نَجْمُ السَّمَاءِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مَعَ الشَّجَرِ فِي مُقَابَلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ذَكَرَ أَرْضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ سَمَاوَيْنِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:
يَسْجُدانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ نَجْمَ السَّمَاءِ لِأَنَّ مَنْ فَسَّرَ بِهِ قَالَ: يَسْجُدُ بِالْغُرُوبِ، وَعَلَى هَذَا فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَيْضًا كَذَلِكَ يَغْرُبَانِ، فَلَا يَبْقَى لِلِاخْتِصَاصِ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: هُمَا أَرْضَانِ فَنَقُولُ: يَسْجُدانِ بِمَعْنَى ظِلَالِهِمَا تَسْجُدُ فَيَخْتَصُّ السُّجُودُ بِهِمَا دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَفِي سُجُودِهِمَا وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الظِّلَالِ ثَانِيهَا: خُضُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى وَخُرُوجُهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَدَوَامُهُمَا وَثَبَاتُهُمَا عَلَيْهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ وَالنَّجْمَ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ إِلَى فَوْقُ، فَشَبَّهَ النَّبَاتَ فِي مَكَانِهَا بِالسُّجُودِ لِأَنَّ السَّاجِدَ يَثْبُتُ. ثَالِثُهَا: حَقِيقَةُ السُّجُودِ تُوجَدُ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَرْئِيَّةً كما يسمح كُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُفْقَهْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤]، رَابِعُهَا: السُّجُودُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ مَقَادِيمِ الرَّأْسِ عَلَى الأرض والنجم والشجر في الحقيقة رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ وَأَرْجُلُهُمَا فِي الْهَوَاءِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ من الحيوان ما به شربه واغذاؤه، وَلِلنَّجْمِ وَالشَّجَرِ اغْتَذَاؤُهُمَا وَشُرْبُهُمَا بِأَجْذَالِهِمَا وَلِأَنَّ الرَّأْسَ لَا تَبْقَى بِدُونِهِ الْحَيَاةُ وَالشَّجَرُ وَالنَّجْمُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْهُمَا ثَابِتًا غَضًّا عِنْدَ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِي أُصُولِهِمَا، وَيَبْقَى عِنْدَ قَطْعِ فُرُوعِهِمَا وأعاليهما، وإنما يقال:
للفروع رؤوس الْأَشْجَارِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ مَا يلي جهة فوق فقيل لأعالي الشجر رؤوس، إذا علمت هذا فالنجم والشجر رؤوسهما عَلَى الْأَرْضِ دَائِمًا، فَهُوَ سُجُودُهُمَا بِالشَّبَهِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَقْدِيمِ النَّجْمِ عَلَى الشَّجَرِ مُوَازَنَةٌ لَفْظِيَّةٌ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ النَّجْمَ فِي

صفحة رقم 341
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية