آيات من القرآن الكريم

حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ
ﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯ

سورة القمر
في السورة إشارة إلى آية انشقاق القمر وحملة على الكفار لمكابرتهم وتكذيبهم لآيات الله. وتذكير لهم بأمثالهم المكذبين السابقين. والسورة ذات خصوصية فنية نثرية. وفصولها مترابطة تامة الانسجام والتوازن. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٤٤- ٤٦] مدنيات وانسجامها التام مع الآيات الأخرى يسوغ التوقف في صحة الرواية.
ولقد روى بعض المفسرين ومنهم ابن كثير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن الآية [٤٦] نزلت وهي جارية تلعب وقد يكون في هذا قرينة مؤيدة لنزولها في مكة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥)
. (١) آية: علامة أو بينة أو معجزة.
(٢) مستمر: إما من الاستمرار، وتكون الجملة في معنى أنه مظهر من مظاهر السحر المتكررة المستمرة. وإما من المرور بمعنى الذهاب والانقضاء، فتكون الجملة في معنى أنه مظهر سحري لا يلبث أن يمر وينقضي وكلا الاحتمالين

صفحة رقم 271

وجيه. وبعض المفسرين قالوا بالإضافة إلى هذا: إن المعنى كلام قوي شديد.
(٣) وكل أمر مستقر: الجملة إنذارية بمعنى أن لكل أمر مصيرا يستقر عنده.
وهذا ما يكون من شأن المكذبين. وبعض المفسرين أضاف إلى هذا قولا آخر وهو أن كل شيء سوف يستقر ويثبت سواء كان حقا أو باطلا، وخيرا أو شرا. فهم يقولون إنه سحر ويكذبونه وسوف تظهر الحقيقة وتستقر...
(٤) مزدجر: فيه ما يحمل على الازدجار أي الكف عن المناوأة والتكذيب.
(٥) حكمة بالغة فما تغني النذر: هناك من حمل «فما» على النفي فيكون معنى الآية أن النذر والآيات لا تغني إذا لم يزدجر المكذبون بما جاءهم من الأنباء والهدى والحكمة في القرآن. وهناك من حملها على الاستفهام فيكون معنى الآية تقريعيا وتساؤلا عما تغني عنه الآيات والنذر إذا لم يزدجر الناس بما جاءهم في القرآن من الأنباء والهدى والحكمة البالغة. ومعظم المفسرين يجعلون جملة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدلا بيانيا من مزدجر «١». والحكمة هنا هي حكمة الله تعالى. وهي كل ما فيه الهدى والحق والإحكام.
في الآيات إيذان إنذاري باقتراب الساعة وقيام القيامة وانشقاق القمر. وتنديد بالكافرين المكذبين الذين إذا رأوا آية من آيات الله أنكروها وقالوا إنها سحر مألوف مستمر. وتقرير للواقع من أمرهم حيث كذبوا الرسول وما جاء به اتباعا للأهواء وإعراضا عن الحق عمدا. وإنذار بأن لكل أمر مستقرا ومصيرا حيث يظهر الحق من الباطل والهدى من الضلال ويستقر. وتقريع لهم على عدم ارعوائهم بينما جاءهم في القرآن من أنباء الأولين ومصائر المكذبين ومن أعلام الهدى والحق ما فيه العبرة التي تحمل على الازدجار والارعواء، وما فيه الحكمة البالغة المقنعة لمن يريد أن يقنع وينجو من المصير الرهيب، فإذا هم لم يزدجروا بذلك فلا تزجرهم الآيات والنذر.

(١) انظر معاني الكلمات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن والنسفي وابن كثير والبغوي.

صفحة رقم 272

وتعبير اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في معنى توكيد اقترابها. واستعملت صيغة الماضي على سبيل التوكيد، وقد تكرر ذلك في القرآن مثل ما جاء في آية سورة النحل هذه:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) وفي آية سورة الأنبياء هذه اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١).
تعليق على انشقاق القمر
أما انشقاق القمر المذكور بصيغة الماضي فقد قيل فيه قولان: أحدهما وقوع الانشقاق فعلا كمعجزة أظهرها الله عزّ وجلّ على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم إجابة لتحدي الكفار، وثانيهما توكيد وقوع الانشقاق عند قيام الساعة كعلامة من علاماتها أو أثر من آثارها.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة متنوعة الرتب والأسانيد «١»، ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تفيد أن الانشقاق وقع فعلا بناء على تحدّي الكفار وأن آيات السورة الأولى نزلت لأن الكفار أصروا على كفرهم وقالوا إن محمدا سحر القمر أو سحر أعين الناس. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس بن مالك قال: «سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم آية فانشقّ القمر بمكة فنزلت:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «٢»
وحديث رواه كذلك الشيخان والترمذي عن عبد الله قال: «بينما نحن مع رسول الله بمنى انشقّ القمر فلقتين فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشهدوا» «٣». وللترمذي «انشقّ القمر على عهد النبي حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد فقال بعضهم إن كان سحرنا لا يستطيع

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والنسفي والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي.
(٢) التاج ج ٤ ص ٢٢٢- ٢٢٣.
(٣) المصدر نفسه.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ١٨

صفحة رقم 273

أن يسحر الناس كلّهم» «١». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس فيه زيادة عن ما رواه الشيخان والترمذي حيث جاء فيه: «سأل أهل مكة النبيّ آية فانشقّ القمر بمكة مرتين فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «٢». وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر» «٣». وحديث رواه البيهقي عن عبد الله قال: «انشقّ القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة.
انظروا السّفّار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال فسئل السفار قال: وقدموا من كل وجهة، فقالوا رأيناه»
«٤». وحديث رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «كسف القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله مُسْتَمِرٌّ «٥».
ومع أن هناك كما قلنا قبل من قال إن جملة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إنما عنت أنه سوف ينشق «٦». فإن جمهور المفسرين وأهل السنّة يأخذون بالأحاديث الواردة وبظاهر الآية ويقررون أن الانشقاق وقع فعلا كمعجزة نبوية بناء على طلب المشركين. ومنهم من نسب إنكار ذلك إلى أهل البدع والأهواء. وهناك من قال إن هذا لو وقع لكان متواترا وعرفه أهل الأرض كلهم ولم يختصّ أهل مكة برؤيته.
وقد فنّد المثبتون هذه الأقوال بحجج وأقوال متنوعة. ولقد قال بعض أهل السنّة

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٢- ٢٢٣.
(٢) النصوص من ابن كثير. وهناك صيغ أخرى لهذه الأخبار فيها بعض الزيادة والنقص فاكتفينا بما نقلناه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) روى المفسر الطبرسي هذا القول عن الحسن وعثمان بن عطاء عن أبيه وهما من علماء التابعين.

صفحة رقم 274

والحديث إن هذا الحادث متواتر غير أن هناك من العلماء من ردّ على ذلك وقال إنه لم يتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا القرآن «١».
والحق إن الآية الثانية قوية التأييد لما عليه هذا الجمهور. لأنها من الصعب أن تصرف إلى معنى آخر. وهذا فضلا عن الأحاديث الواردة في كتب الصحاح وبخاصة إن بينها حديثا صحيحا مرويا عن شاهد عيان هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومع ذلك فإنه يلحظ أولا أن السور التي سبقت هذه السورة لم تحتو إلّا مرة واحدة احتمالا بوقوع تحدّ من المشركين وهو ما تضمنته آية سورة المدثر هذه:
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) واكتفت بالإعلان بأن القرآن أو الدعوة تذكرة فمن شاء ذكره كما جاء في سورة المدثر بعد هذه الآية: كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) دون الاستجابة إلى تحديهم. وثانيا أن السور التي نزلت بعد سورة القمر لم تشر صراحة ولا ضمنا إلى حادث انشقاق القمر كمعجزة جوابا على تحدّي المشركين على عظيم خطورته وعلى كثرة تحدّي المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وكانوا كلما تحدّوه بالإتيان بمعجزة أو آية ردّ عليهم القرآن بأن الآيات عند الله وأن النبي بشر يتبع ما يوحى إليه. وأن القرآن هو المعجزة البالغة ويقف عند ذلك، وبأنهم لن يؤمنوا بأية آية لأن طلبهم هو من قبيل التعجيز والسخرية والتعنّت وليس فيه إخلاص وحسن نية ورغبة صادقة في الاقتناع مما أوردنا نصوصه وعلقنا عليه في سياق سورة المدثر تعليقا يغني عن التكرار. وثالثا إن حكمة التنزيل حينما اقتضت أن يعلل عدم الاستجابة إلى تحدي المشركين لم يذكروا بموقفهم من معجزة انشقاق القمر وذكروا بمواقف الأمم السابقة المكذبة لمعجزات أنبيائهم وبخاصة بموقف قوم ثمود من معجزة الناقة التي أتى بها إليهم نبيهم كما جاء في آية سورة الإسراء هذه التي هي ذات خطورة عظيمة في صدد توكيد عدم الاستجابة إلى تحدي الكفار المتكرر في الوقت نفسه: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما

(١) انظر تفسير ابن كثير والخازن والقاسمي.

صفحة رقم 275

نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً (٥٩) مع أن المتبادر أن التذكير بموقفهم من معجزة انشقاق القمر يكون أقوى وأشد إفحاما. ورابعا إن رواة أحاديث الانشقاق باستثناء عبد الله بن مسعود هم من أبناء العهد المدني. ويكون حديث ابن مسعود حديث آحاد.
وكل هذه الملاحظات قد تبرر الميل إلى الأخذ بتأويل من أوّل عبارة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ بأنها في صدد المستقبل أو عند قيام القيامة حيث تتبدل نواميس الكون على ما ذكرته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة ومن ذلك في صدد القمر في سورة القيامة: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠).
وقد يدعم هذا الحديث النبوي الصحيح الذي أوردناه في سياق تعليقنا في سورة المدثر وهو: «ما من نبيّ إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ» والذي ينطوي فيه تقرير اقتضاء حكمة الله تعالى أن لا يظهر على يد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم معجزة خارقة اكتفاء بالوحي الرباني الذي فيه الهدى والبينات والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
ومع كل ذلك تظل الآية وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ التي جاءت عقب آية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قوية الدلالة ويصعب صرفها إلى معنى آخر كما قلنا. وتظل صحة الأحاديث الواردة في حدوث المعجزة واردة.
وللتوفيق بين الأمرين قد يمكن أن يقال إن حكمة الله اقتضت أن يظهر هذه الآية في أول العهد المكي فلما كذّبها الكفار وقالوا إنها سحر اقتضت حكمة الله أن يكون ذلك الموقف السلبي المنطوي في الآيات التي نزلت بعد هذه السورة. والله تعالى أعلم.
وننبّه على نقطة هامة وهي أننا لا نعني أن هذا التأويل يمكن أن يكون في معنى تقرير استحالة انشقاق القمر كمعجزة ربانية، إذا ما شاء الله ذلك. فخرق النواميس الكونية المعروفة وهو ما تعنيه المعجزة في نطاق قدرة الله تعالى على

صفحة رقم 276

الوجه الذي تشاءه حكمته. وقد شرحنا هذه النقطة في سياق سورة المدثر شرحا يغني عن التكرار.
هذا، وفيما تضمنته الآيات من التقريع على اتباع الأهواء وإنكار الحق والمراء فيه، وعدم الاعتبار بالأحداث الزاجرة والاقتناع بالحق الذي يؤيده الحكمة البالغة والحجة الدامغة، والاستمرار في الغي والغواية تلقينات مستمرة المدى سواء أكانت في تقبيح اتباع الهوى والمراء في الحق والحقيقة، أم في العناد والمكابرة وعدم الازدجار بالأنباء الزاجرة بقطع النظر عما يكون في ذلك من ضرر وخطأ وصدم للحقيقة والحق، وتعطيل للمصلحة وتنافر مع المنطق، أم في إيجاب الابتعاد عن ذلك واتباع الحق أم في التسليم بما تقوم عليه الحجة وتقصده الحكمة القرآنية.
تعليق على موضوع اقتراب الساعة
وخبر اقتراب الساعة المنطوي في الآية الأولى من السورة ليس الوحيد في القرآن فقد تكرر بأساليب متنوعة مثل آية سورة الأنبياء هذه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [١] وآية سورة النحل هذه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [١]. ولقد رويت في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة أيضا منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت أنا والساعة هكذا ويشير بإصبعيه فيمدّهما. وفي رواية بعثت أنا والساعة كهاتين وضمّ السبّابة والوسطى» «١».
وحديث رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلّا شفّ يسير فقال:
والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلّا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه. وما نرى من الشمس إلّا يسيرا»
«٢». وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عمر قال: «كنّا جلوسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال ما

(١) التاج ج ٥ ص ٣٠١.
(٢) النصوص من تفسير ابن كثير. [.....]

صفحة رقم 277

أعماركم في أعمار من مضى إلّا كما بقي من النهار فيما مضى» «١». وحديث رواه الإمام أحمد عن بهز قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال أمّا بعد فإنّ الدنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها. وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنّم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا. والله لتملؤنّه. أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصرعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتينّ عليه يوم وهو كظيظ الزّحام» «٢».
وهذا أمر مغيّب لا مجال للتخمين والتزيد فيه. والإيمان بما جاء في الآيات والأحاديث الثابتة واجب مع الوقوف عند ذلك. وقد يلمح من الحديث الأخير أن الحكمة من الإيذان بذلك هي حثّ الناس على تقوى الله وصالح الأعمال. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهناك أحاديث عديدة أخرى في علامات الساعة وأشراطها سنوردها ونعلّق عليها في مناسبات أكثر ملاءمة إن شاء الله.
شرح لكلمة (الحكمة) ومعانيها في القرآن
وبمناسبة ورود هذه الكلمة لأول مرة في هذه السورة نذكر أن هذه الكلمة تكررت كثيرا في مناسبات متنوعة. وأصل الكلمة من «حكم» بمعنى فصل وقضى وبتّ وضبط. وقد جاءت في القرآن وفي اللغة العربية بالتالي لتعبر عن معان عديدة أخرى وإن لم تبتعد عن هذا الأصل حيث صارت تعبر عن كل قول وفعل وشيء يكون فيه صواب وسداد وحق وهدى وبرّ ومعروف وضبط وإتقان. ويكون بعيدا عن الطيش والرعونة والغلظة والجفاء والبغي والضرر والباطل. وفي سورتي

(١) النص من تفسير ابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.

صفحة رقم 278

الإسراء ولقمان وسلسلتان من الآيات فيها وصايا وأوامر ونواه إيمانية وأخلاقية واجتماعية وسلوكية رائعة إحداهما من الله تعالى مباشرة وثانيتهما على لسان لقمان. وكلتاهما وصفتا بالحكمة. حيث جاء في آخر سلسلة الإسراء ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [٣٩] وفي أول سلسلة سورة لقمان وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [١٢] وكل ما في هاتين السلسلتين هو في نطاق المعاني المذكورة. وفي سورة النحل جاءت الكلمة في معرض رسم خطة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة إلى سبيل الله كما ترى في هذه الآية: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [١٢٥] حيث يفيد هذا النصّ أن الحكمة هي البعد عن الجفاء والغلظة واللجاج والتزام العقل والمنطق وحسن العرض والنية. وهو ما يتصل بالمعاني المذكورة أيضا.
وهناك آيات تذكر ما آتاه الله سبحانه لأنبيائه من الحكمة وإرسالهم للناس بها وتعليمهم إياها للناس إلى جانب كلمة الكتاب حيث يفيد هذا أن الحكمة التي أوتيها أنبياء الله هي ما ألهمهم إياه من قول وفعل متصفين بالصفات المذكورة آنفا بالإضافة إلى ما احتوته كتب الله المنزلة عليهم من مثل ذلك كما ترى في الآيات التالية:
١- كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٥١].
٢- وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: ٤٨].
٣- وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: ٨١].
٤- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء:
١١٣].
وفي سورة البقرة تنويه بمن يؤتيه الله الحكمة كما ترى في هذه الآية: يُؤْتِي

صفحة رقم 279
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية