آيات من القرآن الكريم

حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ
ﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ

سورة القمر
وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال: إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور، وقيل مما نزل يوم بدر، وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات أَمْ يَقُولُونَ إلى وَأَمَرُّ [القمر: ٤٤- ٤٦] واقتصر بعصهم على استثناء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: ٤٥] إلخ،
ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر
وفي الدر المنثور: أخرج البخاري عن عائشة قالت: «نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: ٤٦] »
ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا، وقيل: إلا إِنَّ الْمُتَّقِينَ [القمر: ٤٥] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه:
ثم أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: ٥٧] وهنا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: ١] وقال الجلال السيوطي: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين- النجم، والقمر- من الملابسة، وأيضا إن هذه بعد تلك- كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، وكالصافات بعد يس- في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ [النجم: ٥٠] إلى قوله سبحانه: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم: ٥٣].

صفحة رقم 73

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت جدا وَانْشَقَّ الْقَمَرُ انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين
فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما
وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس- أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق-
لا يعوّل عليه،
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا»
ومن حديثه أيضا «انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود. والطيالسي
وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه» فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال: «اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا:
نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا»

. والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل: هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن سعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع
في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر»
ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ بن حجر: أظن أن قوله:
بالإجماع يتعلق- بانشق- لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا

صفحة رقم 74

فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة،
أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله:

شق عن صدره وشق له البد ر ومن شرط كل شرط جزاء
من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه: ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال:
كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلى مُسْتَمِرٌّ فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم- الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب- لا يعوّل عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع
«أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق»
ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة: لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة

صفحة رقم 75

التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم ورؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة: إن بين الأرض والشمس ثلاثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم إبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون.
ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن له عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومصله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان وشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد.
والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم، وروي عن الحسن أنه قال: هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضا، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة:

فلما أدبروا ولهم دوي دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه لا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الاخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام، ومع هذا لا يكفر المنكر بناء على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصا فيه، والإخراج من

صفحة رقم 76

الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق.
والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني، وكل آت قريب، وزمان العالم مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لاحد إنكارها، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لَعَلَّ في قوله تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: ٦٣] مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب، وعلى الاول قيل: هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع، وقيل: هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحان لأنه معجزة له صلّى الله عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والإخبار باقتراب الساعة وغير ذلك، وآيَةً نكرة في سياق الشرط فتعم، فالمعنى «وإن يروا كل آية يعرضوا» عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها وَيَقُولُوا سِحْرٌ أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مُسْتَمِرٌّ أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات.
وقال أبو العالية والضحاك: مُسْتَمِرٌّ محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا، وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء- واختاره النحاس- مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا: إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه سحابة صيف عن قريب تقشع وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: ٣٢] وقيل: مُسْتَمِرٌّ مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال: مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّا وأمرّ غيره ومرّه يكون لازما ومتعديا، وقيل: مُسْتَمِرٌّ يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات، وقيل: مُسْتَمِرٌّ مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه، وقرىء- وأن يروا- بالبناء للمفعول من الاراءة وَكَذَّبُوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ التي زينها الشيطان لهم، وقيل: كَذَّبُوا الآية التي هي انشقاق القمر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وقيل: العطف على اقْتَرَبَتِ والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات، وقوله تعالى: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه، وفي الكشاف أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلّى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة، قال في الكشف: والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل، وقرأ شيبة

صفحة رقم 77

«مستقر» بفتح القاف ورويت عن نافع، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار، أو ذو موضع استقرار، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح.
وقرأ زيد بن علي «مستقر» بكسر القاف والجر، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها، قال في الكشف: وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع، وقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً إلخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر.
واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير- أكلت خبزا، وضربت خالدا، وإن يجىء زيد أكرمه، ورحل إلى بني فلان، ولحما بعطف- لحما على خبزا- ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى، وقال صاحب اللوامح إن مُسْتَقِرٌّ خبر كل، والجر للجوار، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عز وجل: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه ومِنَ للتبعيض، أو للتبيين بناء على المختار من جواز تقديمه على المبين، قال الرضى: إنما جاز تقديم مِنَ المبينة على المبهم في نحو- عندي من المال ما يكفي- لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح، أو موضع ازدجار ومنع، وهي أنباء التعذيب، أو أنباء الوعيد، وأصل مُزْدَجَرٌ مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب، وقرىء مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها، ورفع حِكْمَةٌ على أنها بدل كل، أو اشتمال من ما، وقيل: من مُزْدَجَرٌ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى، أو إلى ما في الأنباء، أو إلى الساعة المقتربة، والآية الدالة عليها- كما قاله الإمام وتقدم آنفا- احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد، وقرأ اليماني حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني.
فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة الإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وما على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار، وتعقب بأن حق

صفحة رقم 78

المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الاعناء أو العلم به، والمراد بالتولي إما عدم القتال، فالآية منسوخة، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة والظاهر الأول يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ظرف- ليخرجون- أو مفعول به لاذكر مقدرا، وقيل: لا نتظر، وجوز أن يكون ظرفا لتغني، أو لمستقر وما بينهما اعتراض، أو ظرفا- ليقول الكافر- أو- لتول- أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة، أو هو معمول له بتقدير إلى، وعليه قول الحسن- فتول عنهم إلى يوم..
والمراد استمرار التولي والكل كما ترى، والداعي إسرافيل عليه السلام، وقيل: جبرائيل عليه السلام، وقيل:
ملك غيرهما موكل بذلك، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧] وغيرها على القول بأنه تمثيل، فالداعي حينئذ هو الله عز وجل، وحذفت الواو من يَدْعُ لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ، والياء من الدَّاعِ تخفيفا، وإجراء لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات، ومنه- روضة أنف لم ترع، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس، وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل «نكر» بإسكان الكاف كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف، أو السكون هو الأصل والضم للإتباع، وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي «نكر» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يَخْرُجُونَ أي يخرجون مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا، ويرده أيضا قولهم: شتى تؤب الحلبة، وقوله:

سريعا يهون الصعب عند أولي النهى إذا برجاء صادق قابلوا البأسا
وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: ٤٣] إلى قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [المعارج: ٤٣- ٤٤] وقيل: هو حال من الضمير المفعول المحذوف في يَدْعُ الدَّاعِ أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول- يدعو- على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل: وقيل: هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
وفيه ما لا يخفى، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضى، ووجهه ظاهر، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فان أمكن تكسيرها- كمررت برجل قيام غلمانه- فهو أولى من إفرادها- كمررت برجل قائم غلمانه- وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله:

صفحة رقم 79
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل